حدث ذات مساء رائع أن أخطأت وقبلت دعوة صديق للقاء فى مقهى شهير فى منطقة «وسط البلد» بالقاهرة، يعرفه ويرتاده عادة مثقفون ومبدعون غلابة يزاحمهم رواد تيار أدب «التوك توك» والمواصلات العامة الذى أضحى يزين وجه حياتنا الأدبية والثقافية فى السنوات الأخيرة.. المهم، وصلت المقهى العتيد قبل أن يصل صديقى هذا منه لله، وما كدت أستقر على الكرسى البائس المحشور حشرا وسط جيوش الكراسى والأجساد المتراصة فوقها، حتى وجدت رجلا معرفة محشورا هو الآخر على بعد ذراع منى، فلما صادفت عيناى عينيه أومأت إليه إيماءة خفيفة، لكنه فاجأنى بتحية حارة وأخذ يُقرئنى السلام بحماس زائد وبصوت عالٍ هاتفا باسمى مسبوقًا بلقب «أستاذ»، وحيال ذلك أخذتنى العزة بالصيت، ولم أكتف برد التحية بل زدت بأن قلت «اتفضل»، فما كان من الرجل المعرفة إلا أن «تفضل» فعلا فى التو واللحظة ساحبا مع الكرسى بتاعه رجلا آخر كان يرافقه لم أتشرف برؤيته قط من قبل، وفى ثانية واحدة التصق الاثنان بالعبد لله، غير أن شعورى بالندم على ما فعلته بنفسى تأخر دقائق، عندما لاحظت أن الكآبة بدأت تتسرب إلى روحى لسبب بقيت أظنه الحوار العجيب الذى دار فى هذه القعدة، لكنى اكتشفت فى اللحظة التى نجحت فيها حيلتى للخلاص والهروب من المنطقة كلها، أن ما كنت أعتقده «كآبة» هو فى الحقيقة «قرف»، وأن سببه هو «رائحة» الرجل المجهول لا الكلام الذى تفوَّه به أمامى!!
فماذا كان كلام هذا الرجل ذى الرائحة العطنة؟ لقد بدأ يفتح فمه كاشفا عن كهف مظلم يسيجه صفان من الأسنان النخرة، عندما تطوع الرجل المعرفة، وعرّفنى بجنابه واصفا إياه بأنه «مبدع وشاعر».. عندها هز الرجل ذو الرائحة رأسه المثقل بغابة كثيفة لم يبللها ماء الحموم من قديم الأزل، وفغر فاهه المذكور مبتسمًا، فابتسمت له بدورى ابتسامة ما زلت أعانى حتى الساعة من ألم التشققات التى أحدثتها فى صفحة وجهى، ثم فورا طَفِق يقول:
- كمل يا أستاذ فلان التعريف..
لكنه لم ينتظر فلانًا يكمل وإنما هو الذى أكمل: أنا حضرتك شاعر «حداثى صوريالى»..
- «صوريالى»؟!
- أيوه «صوريالى» حضرتك.. ماتعرفش «الصوريالية»؟!
- آه.. سيادتك تقصد «صومالى».. شاعر صومالى يعنى.
هكذا قلت أنا، فوجد الرجل المعرفة أن الواجب المقدس يفرض عليه فى تلك اللحظة الدرامية الدقيقة أن يتدخل فقال موضحًا: هو بيقصد إنه بينتمى دلوقتى للمدرسة «السوريالية» فى الفن والأدب.. يعنى بيكتب الشعر حسب مواصفات ومبادئ هذه المدرسة السوريالية الحداثية الحديثة.
الحديثة!؟
- نعم.. حديثة من الحداثة.
- طيب وليه التعب ده كله.. ما المدرسة «الصومالية» أحسن وأرخص.
تجاهل الاثنان نبرة التريقة الواضحة فى تعليقى، وأرجح أنهما لم يفهماها أصلا، واستأنف الرجل ذو الرائحة كلامه قائلا بانتفاخ وفخر:
- أنا زمان كنت «عادى»..
- عادى؟!
- أيوه.. كنت باعمل الشعر العادى خالص.
- وكنت بتعمله فين؟
- يعنى كنت تلاقينى أقول على سبيل المثال..
القطة كاتى كاتى/ قعدت لى عند حماتى
وحماتى بوسى بوسى/ بتحب السمك الروسى.. عارف حضرتك السمك الروسى اللى كان بيتباع فى الجمعية زمان؟!
- طيب زمان كنت بتقول عن حماتك إنها «بوسى» و«القطة كاتى» و«السمك الروسى»، فما الذى حدث وماذا غيرك وأصابك بالداء الحداثى الصومالى هذا؟!
- ويلات الحروب يا أستاذ.
- أى حروب؟ الحروب النابوليونية أم حرب داعس والغبراء؟!
- حرب الخليج يا باشا.
- هل أصابتك شظية منها استقرت فى غدتك الشعرية.. مثلا؟!
- حصل.
- يا سلام!!
- وعهد الله زى ما بقولك كده.. ومن يومها لم أقرض الشعر العادى أبدا، غويت الصوريالية والحداثة والحاجات دى كلها، ومشيت فى التيار عشان مصر والعراق و«بسنديلة».
- ياه و«بسنديلة» كمان؟
- نعم.. مركز بسنديلة دقهلية، حيث ولدت وترعرعت.. عشان كل دول أصبحت بقول دلوقتى:
أمى/ خالتى/ حماتى/ مراتى/ بياظة..
«بياظة»؟!
- أيوه.. يعنى صفحة فاضية فى الديوان.
- وانت أصدرت ديوان؟
- لأ.. بس إشمعنى دى يعنى؟ طب ما أنا مش متجوز وقلتلك «مراتى» و«حماتى»، ولم تسأل؟!
- أنا آسف جدا.. بس أنا مضطر أسيبكم وأقوم دلوقتى حالا، لأن المرحوم أبويا فى المستشفى وحالته خطر وكنت ناسى.
- الله يرحمه ويشفيه.. بس والنبى ماتنساش تدفع حساب المشاريب.
انتهى الحوار، وانتهت القصة التى سأتركها عند حضرتك أمانة إلى أن يفرجها ربنا.
«ملحوظة: هذه السطور كتبتها من 4 سنوات قبل أن نعرف اختراع «النشطاء» الذين يتميز بعضهم بـ(الرائحة) نفسها».