أمس أدى خطأ تقنى (ليس للزملاء دخل كبير فيه) إلى نشر مقال قديم كتبه العبد لله فى ذكرى سابقة لانتفاضة الشعب الخالدة يومى 18 و19 يناير سنة 1977، والحق أنه لم يكن عندى أى اعتراض قوى على إعادة نشر هذا المقال بالذات سوى أنه كان يحتاج إلى بعض التعديلات فى سطور المقدمة، وربما لهذا لم أغضب كثيرا (ربما غضبت قليلا) عندما وجدت عنوانه «جاكتة يناير الاستراتيجية» يزيّن رأس هذه الزاوية فقد خفَّفَت عنى كلماته وقع الخطأ، إذ ذكَّرتنى بقصة طريفة و«حبسة» رائعة، كلتاهما تركت فى نفسى أثرًا حلوًا صمَدَ وبقىَ معاندا تراكمَ وتآكلَ سنين العمر.
ولكن لعلك لاحظت عزيزى القارئ، أننى استخدمت كلمة «رائعة» فى وصف أول تجربة سجن فى حياتى، مع أنى أعتقد اعتقادا جازما راسخا وبالتجربة المُرَّة أن السجن هو واحد من أغلظ اختراعات البشر، صحيح أن الإنسان اخترع وسائل إيذاء أخرى أشد هولا ووحشية، غير أن الحرمان من نعمة الحرية يظل أمرا كريها يدعو للحزن مهما كان السبب، سواء كان مشروعا أو غير مشروع.. وتلك واحدة من تجليات محنة الكائن الإنسانى وتمزقه القَدَرى بين معانٍ واعتبارات وضرورات متعارضة ومتعاكسة تماما.
وبعد.. فما دامت «جاكتة يناير» وانتفاضته القديمة العظيمة والحبسة المتفردة التى أعقبتها وجمعت وحشرت فى الزنازين أيامها كل عقل مصر وضميرها (تقريبا) مع عينة ضخمة من بسطاء الشعب، قد فرضت نفسها علينا بغلطة الأمس، فإن دواعى الصدق والاستقامة تفرض على العبد لله الاعتراف بحقيقة أن شهر يناير هذا كان طوال أغلب سنوات عمرى يأتى ويتجدد كل مرة حاملا معه حكايات و«جاكتات» واحتجاجات وانتفاضات (تُوِّجت بثورة 25 يناير) كلها ينافس بعضها بعضا فى الروعة كما لم تخلُ من وقائع ومآلات درامية، فضلا عن الطرافة وخفة الظل.. يعنى مثلا تلك «الجاكتة» التى قرأتَ حضرتك قصتها أمس وأظنك ضحكت من فيض الطيبة والبراءة الذى جعل صديقين عزيزين يتوسلان بها لتنفيذ خطة تمويه وخداع استراتيجى للمباحث انتهت باعتقالهما معًا بسهولة ويُسر شديدين، هذه «الجاكتة» ليست الوحيدة فى «دولاب» ذكريات النضال أيام بواكير الصبا، إذ ما زلت أحتفظ بقصة «جاكتة» استراتيجية أخرى أظنها لا تقلّ ظرفا ولطفا إن لم تزد.
القصة حدثت أيضا فى يناير لكنه كان فى عام 1978 (التالى مباشرة لعام الانتفاضة) ورغم أننى كنت خرجت من السجن قبل شهور قليلة فإن هذا الأخير لم يهذبنى ولا جعلنى أنا أو غيرى، نقعد أو نتأدب فى مواجهة نظام المرحوم الأستاذ أنور السادات الذى تمادى بعد الانتفاضة فى سياساته الانقلابية الهوجاء داخليا وخارجيا لدرجة أنه أقدم فى شهر نوفمبر من العام نفسه على زيارة القدس المحتلة مما أدى إلى انفجار هائل وحَّد كل القوى الوطنية (عدا الإخوان) ضد نظامه، وطبعا كان طلبة الجامعة (المسيَّسون) فى طليعة المعارضين.. وقتها لم نكتف بالنشاط الاحتجاجى (بوسائل مفرطة فى الرقىّ والسلمية والتحضر) داخل أسوار الجامعة وإنما ذهبنا نكافح خارجها أيضا.. هنا وقعت أحداث حكاية الجاكتة المذكورة التى ملخصها أننى كنت فى إحدى الليالى الينايرية واحدا من مجموعة قوامها بضعة شباب صغار، أكبرنا كان عاملا فى مصلحة التليفونات، وقد تواعدنا فى هذه الليلة على اللقاء فى أحد شوارع الجيزة المظلمة لكى نبدأ تحت جنح الظلام وزمهرير البرد توزيع «رزمة» منشورات بدائية الطباعة والصياغة لكننا اعتبرناها كافية لإقناع كل من تصل إليه بخطورة وكارثية زيارة السادات للقدس المحتلة التى هى بداية طريق الاستسلام للعدو الصهيونى.
المهم، اكتمل عقد المجموعة الثورية فى الشارع الضلمة وقبل أن نتوكل على الله ونسرح بمنشوراتنا فى الأزقة والحوارى المحيطة أعرب صاحبنا الكبير عن غبطته وانبساطه من أن الطقس شديد البرودة هذه الليلة وهو أمر سيساعدنا على توفير المزيد من تأمين العملية الثورية التى نتأهب لارتكابها حالا «الناس الليلة دى كامنة فى بيوتها من البرد».. هكذا قال بصوت خفيض جدا وقد وافقناه جميعا بالصوت الخفيض نفسه، غير أنه فاجأنا بعد إبداء هذه الملاحظة الذكية بأنه قام بسرعة بخلع الجاكتة التى كان يلبسها فوق قميص بائس خفيف، ثم دسها بعنف فى يد العبد لله وهو يهتف بصوت سمعته بالعافية، قائلا: خلّى دى معاك لغاية لما نخَلّص..
- كيف هذا؟.. دا انت كده حَ تموت من البرد!
- أصل دى جاكتة الشغل (اليونيفورم).. ولو اتقفشت بيها حَ اروح فى داهية.
- حَ تروح فى داهية عشان الجاكتة ولّا عشان المنشورات؟! ثم انت أصلا لبستها ليه دلوقتى؟!
- ده يا أستاذ جزء من خطة الخداع والتمويه.. أنا اتعمدت ألبسها عشان الجيران يفتكروا أن عندى نبطشية ليل، وما يشكّوش فى حاجة..
- يا سلام..؟!
- آه وعهد الله...