سألت مرة وأعيدها الآن بعد الهوس المرتبط بترشيح السيسى للرئاسة. الهوس لا يتعلق بقرار الترشيح نفسه/لكنها حرب يتم معظمها فى الكواليس وليس مهمًّا أن الخبر يعلن وينفى فى نفس اللحظة/فى إيقاع يجعل المهاويس على المسرح دائمًا. الموضوع إذن ليس ترشيح السيسى، ولكن استمرار الجدل حوله وهو ما يغطى على محاولات المهاويس ترسيخ وتنظيم حضورهم. هذا رغم أن المهاويس ليسوا فريقًا واحدًا بينهم فريق يريد أن يحجز مكانًا فى حاشية الرئيس القادم/أو يحسب له الفضل، وبين هؤلاء مَن كانت تحركهم أجهزة أمن مبارك، يدفعون من خلف الكواليس فى توّهم بأن هذا هو الطريق لعودتهم ومحو ثلاث سنوات من الثورة (يسمونها نكسة لأن مصالحهم معها انتكست).. هؤلاء معروفون بالاسم وكان بينهم مَن أوصلته أمن الدولة ليرأس حزبًا من أجل قتله/وآخرون من حاملى تصاريح تكوين الثروات أيام الحزب الوطنى ملعون الذكر. هؤلاء يبحثون عن موقع ويتصورون أن هذه الطريقة هى حجز مكان فى النظام القادم/وآخرون يرون بنفس الطريقة أن فرصتهم لم يحصلوا عليها فى حضور عصابة مبارك/ فتنفتخ عروقهم الآن ليضمنوا فرصتهم مع السيسى. وهذا صنف غريب من مهاويس ترشيح السيسى، وهم للأسف ما زالوا فى مرحلة «قبل السياسة»/وللأسف لأنهم لو قرروا ممارسة السياسة فهذا يعنى تكوينهم أحزابًا وتفكيرهم فى برامج سياسية/وهم حتى الآن ما زالوا فى المرحلة الطفيلية يعيشون على فتات السلطة ويستمدون قوتهم من ظلّها/لكنهم حتى لا يمكن اعتبارهم طبقة «رأسمالية» أو مدافعين عن حرية السوق.. لأن هذا يعنى من الناحية السياسية دفاعهم عن الشفافية وتداول السلطة.. وغيرها من قواعد السياسة فى الأنظمة الرأسمالية.
لكن هذه المجموعات ليست رأسمالية/وكل ما تتمناه من ترشيح السيسى هو تكوين مركز يلتفون حوله ويقتلون به الخصوم والأعداء لتعود لهم «البلد» عزبة.
حتى إنهم وهم يدفعون أموالًا ضخمة فى حملات «نعم للدستور».. يهاجمون فى السر وعبر كتاباتهم الدستور ويعتبرونه يساريًّا لأنه فرض الضريبة التصاعدية/وهى ضريبة ليست ضد الاستثمار ولا الاقتصاد الحر/لكنها ضريبة تزعج الرأسمالية المتوحشة. يتصور هذا الفريق من المهاويس أنهم سيحوّلون الدستور كما كان أيام مبارك إلى كتيب لزوم الأناقة أو على الأقل يمكنهم تغييره.. عندما تكتمل خطتهم.
والخلل ليس هنا فقط فهم يدفعون الآن ثمن حملات انتقامية من ثورة ٢٥ يناير/تقوده عصابات من بقايا جهاز أمن الدولة/ويتسابقون على اصطياد النشطاء خلف القضبان/أو عبر صواريخ القاذورات القادمة من شاشات يصرف عليها تايكونات هذا الفريق الساعى للعودة إلى الحياة بعد الموت.. أى أنهم زومبى لكنه أنيق ويعيش فى منتجعات.. هؤلاء لا يملكون خطابًا ولا شبابًا، وليس لديهم سوى مرتزقة يمكن أن يلعبوا دور مذيعين يقدمون استعراضات التسلية الوقحة/أو دور المحامين الذين يقدمون محاكمات على اقتحام جهاز أمن الدولة.. وهو الفعل الرمزى الذى يشبه تحطيم سجن الباستيل فى الثورة الفرنسية/هذا من ناحية المنطق لا التفاصيل أو الأحداث.. لكنه اقتحام لرمز النظام الذى أسقطته الثورة وكان يجب أن يحاكم كل مَن حوّل هذا المبنى من مهمته فى الحماية إلى «عاصمة جهنم» التى تحمى النظام، لكنهم الآن يحققون فى الاقتحام كأنهم يقولون إنه كان على السيدة التى أشارت للفرنسيين إلى السجن بالاعتذار ليبقى الباستيل.. وتبقى فرنسا أسيرة عصور القهر والانحطاط.. هم يريدون أن يحكموا إذن بالثورة/عبر دستور هى شرعيته/لكنهم سيحاكمون كل مَن اشترك فيها.. هذا العبث والخرف هو كل ما لدى هذه المجموعات من الزومبى الأنيق التى تلتهم كل ما يمكن أن يكون محترمًا.. والمدهش أن هذا الفريق يتصادم مع فريق آخر يرى أن السيسى تصحيح لما فعله السادات حين استبعد النواة العسكرية وصعد بدلًا منهم جناح الثروات القديمة (الريف والملاك العقاريين)، ليكونوا مقدمة طبقة جديدة تحمل تصاريح الثروات..
هؤلاء يتصورون أن هذا وقت إحياء «الناصرية»/حيث الرئيس بطل.. والشعب فى انتظاره.. والدولة هى تجلى من تجلياته. وإضافة إلى أن هذا النوع من الدول هُزم تاريخيًّا/مع كل الاحترام لعبد الناصر أو من شابهه/لكن الدول ليست صَنعة إلهية.. ولا إلهام الأبطال.. ولا تقوم الدول على أبطال شعبيين.. ليس رفضًا للبطولة/أو حتى لأن الشعوب التى تنتظر أبطالًا هى شعوب يائسة.. ولكن لأن البشرية تجاوزت هذا النمط بعد أن أدّى إلى هزائم وكوارث.. بالضبط كما أدّت دول الكهنة وعائلات الدم الأزرق. وهذا يعنى أن أكثر الفرق صراخًا لاختيار السيسى هى التى تريد توظيفه فى معاركها.. ولا تراه هو شخصيًّا ولا ترى الظروف التى تغيّرت..
وهذا غير قطاعات واسعة من المجتمع ترى فى السيسى فعلًا منقذها/لأنها شعرت بالرعب المفرط من حكم الإخوان/كما أنها وعبر السيسى تعبّر عن رفض الجميع سياسيًّا (نظامًا قديمًا ومعارضته..)، هذا غير أن القوى المؤمنة بالديمقراطية والتغيير ما زالت فى مرحلة الاحتجاج لا الصراع على السلطة.
هنا يأتى السؤال مرة أخرى: لماذا لا تُعلن ديكتاتورية عسكرية.. رغم أن هناك خائفًا منها/وراغبًا فيها.. والديكتاتورية تجد بيئتها الطبيعية بين الرغبة والخوف؟
لماذا لا يخرج الجيش ويعلن جمهوريته/على غرار ديكتاتوريات أمريكا اللاتينية/خصوصًا أن له جمهورًا ومتيمين وعشاقًا؟ التفكير فى الأمر ليس سهلًا/خصوصًا عند منتظرى الديكتاتور إما بالرغبة وإما الخوف/هؤلاء يتصورون أن التغيير سيتم على طريقة الأفلام العربى حيث ينتصر الخير على الشر فى النهاية بعد سلسلة من المفارقات والصعوبات طبعًا/ولأن الواقع لا يمنحهم اليوم مشهد انتصار الخير، فإنهم يتصورون أن الشر انتصر/خصوصًا أن هناك جمهورًا لهذا الشر يعلنون فرحهم.
.. هل نحن على أعتاب ديكتاتورية عسكرية؟