رسم الفنانُ لوحتَه، وصلّى ركعتى الفجر حاضرًا ونام، انشرح صدره بعد أن قضى ليلةً ناعمةً دافئةً بين ألوانه وإبداعه الذى حلّق به فى أعالى السحاب، يصاحبه صوت أم كلثوم، وهى تشدو «حبيبى يسعد أوقاته عالجمال سلطان».. ويداعبه عبد الوهاب بألحانه وموسيقاه الوثّابة نحو التحديث والمعاصرة فى أزمان التنوير الحقيقى الذى حقّق لمصر مكانتها الريادية فى شتّى مناحى الحياة، فكانت تعتمد بوعى بعيد النظر فى أن تستعين بالفن وسيطًا جيدًا، شديد التأثير فى لمس واستمالة قلوب المصريين والأشقاء العرب، ليلتف الجميع حول نغمة أو صوت أو فيلم عربى أو رواية أو حكاية فى غاية اللذاذة وصولًا إلى التمثال الشعبى (شكوكو بإقزازة). وقت كانت الفنون والسينما والمسرح وأنواع الطرب هى السلاح الناعم والمزاج العالى والسلطنة، بداية من دار الأوبرا وقاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة إلى دار سينما قصر النيل وسينما مترو، وصولًا إلى الموالد والاحتفالات الشعبية بأولياء الله الصالحين من آل البيت بحيىّ سيدنا الحسين والسيدة زينب المفعمين بالمطاعم الشعبية والمقاهى العامرة بالساهرين المنتعشين وجدانيًّا بعبق المكان، يجاورهم ألوان من الجنسيات المختلفة من السوّاح العرب والأجانب.
أمّا على الجانب الآخر، فقد قضى أبو بتاعة البرطمان ليلته يعبئ البنزين فى زجاجات فارغة ويحكم سدّادتها بفتيل، ثم يتنقّل بين مهام أخرى، فيحشو ماسورة بندقيته السوداء بطلقات الخرطوش، ويسّن سكاكينه وسنجه وأسلحته البيضاء حتى يمتد بريقها إلى عينيه الجاحظتين فينتشى مطلقًا ضحكات شيطانية هيستيرية.. يتثاءب بعدها لتظهر له أنيابه المدبّبة فى مرآته المعتمة المؤكسدة بغبار فكره المنغلق المعتم... هو أيضًا صلّى ركعتى الفجر حاضرًا، واتخمد نام.. إلهى ينام ما يقوم، ويفكّنا من شرّه.
فى الصباح تلاقى الاثنان وجهًا لوجه.. البرطمان، والفنان! كان البرطمان يحمل علامة رابعة الصفراء ذات الأصابع الأبيحة، وكان محمولًا على كتفى برطمان آخر يشبه إلى حدّ كبير تمثال بوزا بكرشه الواسع العريض، وقفاه المفلّطح المكدّس بثنايا متراكبة فوق بعضها البعض طبقات وطبقات.. وكان الغليظان على رأس مظاهرة غلّاوية سوداء قطعت الطريق.
أمّا الفنان، فقد كان يسير وحيدًا فى طريقه لحضور ورشة عمل يشارك بها متطوعًا، لتلوين واجهات البيوت فى أحد الشوارع المخنوقة بمناطق العشوائيات، وكان يضع سمّاعات الوكمان التى تبث فى أذنيه موسيقى ناعمة لعمر خيرت، حاملًا حقيبته المبهجة ذات الألوان المزركشة التى تفصح عمّا تحتويه من أدوات الفنان من أقلام وفرش وألوان وصور وورق أبيض ناصع كلون اللبن الحليب.
قال الفنان للبرطمان بابتسامة سمحة: افسح الطريق. ردّ البرطمان بصوت متشنّج خشن، ونظرة شرّانية عبوسة: ابتعد أنت يا فاسق يا فاجر يا انقلابى يا لاعق البيادة! لم يفقد الفنان ابتسامته وهو يحاول أن يخترق صفوف المظاهرة ليكمل طريقه، لكن يد البرطمان انتزعت سمّعات الوكمان من أذنيه وألقتها على الأرض ليتبعثّر منها نغمات موسيقى عمر خيرت والموسيقيون العازفون وآلاتهم، فى نفس الوقت الذى تبعثّرت فيه أيضًا محتويات حقيبة الفنان المزركشة، لينقلب المشهد فجأة إلى ما يشبه الكرنفال المبهج.. فقد تشكّلت تجمعات من الكمانجات والأعواد والتشيلوهات والبيانوهات وبالتات الرسم وأنابيب الألوان، الأحمر والأزرق والأصفر بدون الأصابع السوداء الأبيحة.. وفرش الرسم ناعمة الملمس والأقلام. وكلهم رفعوا الورق الأبيض الناصع رايات قوية للفن والسماحة والقوة الناصعة الواضحة.. فتبخّرت المظاهرة، واختفى المتظاهر البرطمان، وكل المتظاهرين من البرطمانات المغلقة بإحكام على ما تحتويه من خزعبلات ونصب واحتيال وجهل وغدر وإرهاب مما أرساه ودسّه الإخوان باسم الدين.