كانت الأيام التى انصرمت بين المحاكمة السياسية الصورية التى حكمت على عرابى وصحبه بالإعدام الذى خفف للنفى، وفق أوامر صارمة من الحكومة الإنجليزية، وبين مغادرتهم مصر، حافلة بالأحداث، مترعة بالهم والكدر. فلم يتم فى هذه الأيام الحزينة الاستعداد للسفر فحسب، ولكن أصر الخديو على تحقيق شىء من انتقامه منهم قبل سفرهم، بعدما حرم من إعدامهم. فبعد انتهاء المحاكمات التى استمرت من 3- 10 ديسمبر، وانتهت جميعها بالحكم على الباشوات السبعة بنفس الحكم، الإعدام الذى يخفف للنفى، حسب منطوق نسخة الحكم المعلقة الآن فى متحف عرابى فى «مدينة كاندى»، التى تقول حسب صورتها المرفقة:
«نحن خديو مصر..
بناء على أنه صدر الحكم بالقصاص على أحمد عرابى باشا بما قر عليه قرار المجلس العسكرى فى 22 محرم سنة 1300 (3 ديسمبر 1882) حسبما تقتضيه المادة السادسة والتسعون من القانون العسكرى العثمانى، والمادة التاسعة والخمسون من قانون الجنايات، وبناء على ما رأيناه من آيات ما لنا من حق العفو لأحمد عرابى المذكور، أمرنا بما هو آتٍ.
لماذا طلب اللورد دوفرين لقاء عرابى قبل أن يغادر البلاد؟
مفارقات المغادرة والوصول.. وهبوط العرابيين فى سرنديب
أولا: الحكم الصادر على أحمد عرابى المقتضى جزاءه بالقصاص، وقع تبديله بالنفى على الأبد من الأقطار المصرية وملحقاتها.
ثانيا: هذا العفو يبطل ويقع إجراء الحكم على أحمد عرابى بالقتل لو رجع إلى الأقطار المصرية أو ملحقاتها.
ثالثا: على ناظر الداخلية وناظر الحربية والبحرية تنفيذ أمرنا هذا كل منهما فى ما يخصه. صدر بسراى عابدين فى 22 محرم سنة 1300/ 3 ديسمبر 1882. ثم تجىء توقيعات: ناظر الحربية والبحرية، وناظر الداخلية، ورئيس مجلس النظار».
ولم يكتف توفيق بهذا، فما إن تمت المحاكمات، وحكم على الباشوات السبعة بالإعدام الذى استبدل به النفى «على الأبد من الديار المصرية وملحقاتها» حتى أصدر الخديو أمرا فى 14 ديسمبر بمصادرة أملاك الزعماء السبعة المحكوم عليهم وأموالهم، وحرمانهم من حق امتلاك أى ملك فى الديار المصرية بطريق الإرث أو الهبة أو البيع أو بأى طريقة ما. مع ترتيب معاش سنوى لهم بقدر الضرورى لمعيشتهم. وقضى المرسوم ببيع أملاكهم، وما ينتج من هذا البيع من صافى الثمن يخصص لسداد التعويضات التى ستعطى لمن أصيبوا فى حوادث الثورة. («الوقائع المصرية» 14 ديسمبر 1882) وفى 21 ديسمبر صدر أمر خديوى آخر بتجريد الزعماء السبعة من جميع الرتب والألقاب، ومحو أسمائهم من سجلات الجيش المصرى محوا مؤبدا (راجع «الوقائع المصرية» عدد 24 ديسمبر 1882).
ولا بد أن وقع طقوس هذا الهوان، بتجريد الزعماء من رتبهم وألقابهم ونياشينهم، ومحو أسمائهم من سجلات العسكرية المصرية، كان شديدا على أنفسهم. خصوصا أن الخديو أصر على علانية تنفيذه فى ساحة مفتوحة وأمام الجند فيهم. فجمع الزعماء السبعة صباح 25 ديسمبر فى سجن الدائرة السنية. وتُلى عليهم أمر التجريد، مع نزع ما كان منها على أى من ملابسهم. وأعطوا مهلة يومين آخرين ليتداولوا فى أمور تجهيز معدات الرحيل وأمتعتهم. حيث كان مقررا سفرهم من القاهرة مساء يوم 27 ديسمبر، ومغادرة الأراضى المصرية على ظهر باخرة أعدتها لهم الحكومة لهذا الغرض صبيحة اليوم التالى 28 ديسمبر، هى الباخرة مريوط. وهى باخرة إنجليزية صغيرة استأجرتها الحكومة لنقل الزعماء وأسرهم وحاشيتهم. تقول لنا الوثيقة المعلقة الآن فى متحف أحمد عرابى فى مدينة «كاندى» أن مجموع عددهم تجاوز الثمانين. لأنه فضلا عن الزعماء السبعة، كان هناك 74 شخصا آخرين من الأهل والخدم. فقد صحب عرابى معه حرمه وولديه محمد وإبراهيم وثلاثة من الخدم، بينما صحب يعقوب سامى 17 شخصا، وعبد العال حلمى 12، ومحمود سامى البارودى خادمين (طباخ وفراش)، ومحمود فهمى 8، وعلى فهمى 15، وطلبة عصمت 14. وكان بنفس الكشف ٥ أشخاص للسفر برفقة أحمد عبد الغفار الذى تم استثناؤه فى آخر لحظة، ولم يسافر معهم حينما برهن زعيم الخونة محمد سلطان على خيانته التى أعفته من النفى. ومن يتأمل هذه القائمة يجد أن عدد الحشم فيها من فراشين وطباخين وخدم أكثر من عدد أفراد أسر الباشوات السبعة، مما يدل على أنهم كانوا جميعا يعيشون فى بحبوحة من العيش، وأنهم أرادوا أن لا يساوموا فى المنفى على راحتهم أو رفاهيتهم.
والواقع أن مشاهد وإجراءات إعداد تلك القائمة لا بد، وقد أثارت كثير من الشجون. خصوصا أننا نعرف أن زوجة عرابى الأولى، شقيقة زوجة الخديو فى الرضاعة، قد استطاعت تجنب السفر معه، لما لها من نفوذ بالقصر، ومعارف بين كثير من الأجانب والأوروبيين. فقد تدخلت الليدى جريجورى التى كانت صديقة لها لدى السلطات لإعفائها من النفى. فهل وصل الولس الذى كسر عرابى إلى عقر بيته؟ لكن تلك قضية أخرى كما يقولون، تستحق أن تروى على حدة، هى وقصة إنقاذ أحمد عبد الغفار «باشا فى ما بعد» فى اللحظات الأخيرة من النفى. وأحمد عبد الغفار لمن لا يعرفون هو أحد أكبر أثرياء محافظة المنوفية التاريخيين رغم أن هذه المحافظة ليست مشهورة بسراتها، لازدحامها الشديد بالسكان. وهو رأس الأسرة التى حرص أنور السادات فى أوج سلطانه على تزويج أحد أبنائه أو بناته لا أذكر منها، فهى أشد أسر مركز تلا الذى ينحدر منه السادات نفسه ثراءً وجاها وعزوة، ويعود قسم كبير من هذا الثراء بالطبع للخيانة، كما هو الحال مع محمد سلطان «باشا» فى الصعيد.
وبينما كانت هذه الاستعدادات تدور فى مناخ من الغم والكدر، طلب اللورد دوفرين صباح 26 ديسمبر مقابلة أحمد عرابى على حدة. وجعل يناقشه فى ما كان يود أن يقوم به هو وحركته، لو قيض لها النجاح. وما البرنامج الإصلاحى التفصيلى الذى كان يريد تنفيذه، وكأنه يريد استقاء أهم تقرير عن أحوال البلاد والعباد من أوثق المصادر. أو كأنه يريد رأى أبرز مراكز الأبحاث وصناعة القرار عنها بلغة هذه الأيام. لأن الإنجليز فيما يبدو، وعلى عكس كل ما كانوا يصرحون به، كانوا يريدون أن يرسخوا وجودهم فى مصر، بأن يظهروا بمظهر الحريص على تحقيق آمال الشعب فيها، على العكس من الخديو. وطلب منه أن يكتب له بيانا كاملا بكل الأمور التى كان ينشد أن يحققها لمصر. وكان فى مقدمة الأمور التى تشغل الثوار الذين يتمنون استقلال البلاد وصلاح أحوالها هو أنهاء السخرة، وتحريم استخدام الكرباج ضد الفلاحين خاصة، وتحصيل الأموال من الأهالى بالحق، وسيادة العدل والقانون، وإنهاء كل أشكال الاستبداد، وتشكيل مجلس لشورى النواب يختص بأمور مصر وميزانيتها، وغير ذلك من الأمور التى تمنى عرابى أن يحققها لبلاده بثورته.
ومن يراجع ما قام به الإنجليز فى مصر، بقيادة اللورد كرومر عقب نفى العرابيين، يدرك أن التقرير الذى أمضى عرابى ليلته الأخيرة فى القاهرة فى كتابته للورد دوفرين، كان بمنزلة خطة العمل التى ساروا عليها. يقول عرابى فى أول حديث نُشر له بعد عودته من منفاه «وقبلما أفارق هذا القطر طلب اللورد دوفرين منى أن أطلعه على ما أرى هذا البلد محتاجا إليه من الإصلاح، فكتبت تقريرا ضمنته 19 مادة فى ما أراه واجب الإجراء لإصلاح أحوال البلاد والعباد. وأنا أراها الآن مستوفاة فى الإصلاح الذى تم بحسن تدبير جناب اللورد كرومر المصلح الكبير» (راجع، المقطم، عدد 3 أكتوبر 1901)، وقد فتح عليه هذا التصريح نيران حزب مصطفى كامل الوطنى، وأطلق عليه كلاب حراسة ذلك الحزب الذى لم ير حلا للقضية المصرية إلا فى السياق التركى، وضمن دولة الخلافة. دون أن يدرك أى منهم مدى حيدة عرابى فى شهادته على ما قام به الإنجليز من الأمور التى تمنى عرابى أن يحققها لبلاده بثورته، ومن يراجع ما كتبه عبد الرحمن الرافعى فى (الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزى، ص 446) عن تصريح عرابى ذاك، وعن تنفيذ الإنجليز للبنود الـ19 التى قدمها إلى اللورد دوفرين لإصلاح مصر يدرك كيف أننا لا نعرف، لا الموضوعية ولا احترام الاختلاف من وقتها.
المهم أنه فى مساء اليوم التالى 27 ديسمبر، وقد جمع كل من الزعماء الخمسة من يريد أن يصحبهم معه، أعد الإنجليز قطارا خاصا فى ثكنة قصر النيل، أقلع بهم فى المساء، وودعهم محاميهم مستر برودلى، وسير تشالز ويلسون مندوب مجلس العموم البريطانى، وصحبهم فى القطار محاميهم الآخر نابييه، وتحرك بهم القطار فى العاشرة مساء، وكان يخفرهم رهط من الجنود المصريين وآخر من الإنجليز. فبلغوا مدينة السويس فى الثامنة من صباح اليوم التالى. وتوجهوا مع ذويهم وخدمهم إلى الميناء، فى قدر كبير من التكتم والسرية. واستقلوا الباخرة التى أقلعت بهم فى الواحدة بعد ظهر 28 ديسمبر 1882، متوجهة إلى ميناء كولومبو فى سيلان. فوصلت إلى ثغر العاصمة مساء التاسع من يناير 1883. وكان ميناء كولومبو مزدحما بالجماهير التى جاءت للقاء العرابيين والترحيب بهم، بصورة غير مسبوقة، إلى الحد الذى منع نزولهم من الباخرة بليل، كما حرص الإنجليز على مغادرتهم القاهرة بليل، وفى نوع من التكتم والسرية التى حرمتهم من أى وداع شعبى.
ولا يمكن أن يكون التناقض بين رحيل العرابيين الغريب من القاهرة بليل، وكأنهم «عاملين عملة»، كما يقول التعبير الشعبى، وليسوا زعماء أمة، وفى تكتم شديد، واستقبالهم الحافل فى سيلان استقبال الأبطال أشد تناقضا مما حدث. فبقدر ما عانه هؤلاء الرجال الكبار الذين لم يحركهم غير ما ارتأوا أنه مصلحة الوطن فى مصر بعد الهزيمة، بقدر ما كان الاعتراف ببطولتهم واستقبالهم استقبال الفاتحين فى سيلان عند وصولهم إليها. فلم يكن أهل سرنديب عموما، والذين عانوا قبلنا من الاحتلال الإنجليزى لبلادهم، (فقد استعمرها الإنجليز عام 1796 أى قبل وفود الفرنسيين بحملتهم إلى مصر بعامين، ثم ضموها إلى التاج البريطانى عام 1802، أى قبل حملة فريزر الفاشلة على الإسكندرية بـ٥ أعوام) والمسلمون منهم خصوصا، يعرفون تفاصيل الصورة الصغيرة التى ينشغل بها المصريون عادة، صارفين النظر عن الصورة العامة. بل كان ما يهمهم هى الصورة العامة التى تقول إن العرابيين ثاروا ضد الظلم والاستبداد، وإنهم حاربوا الإنجليز قدر طاقتهم كى يمنعوهم من احتلال بلدهم، وأن الخيانة هى التى كسرتهم.
لذلك خرجت جموع كبيرة من أهل سرنديب لاستقبالهم، وعلى رأسها عدد غفير من مسلمى هذا البلد البعيد، وكانوا من أكثر سكانه تهميشا فى هذا الوقت، كما سنرى بعد قليل. وقد وجدوا فى كون هؤلاء الأبطال الذين حاربوا الإنجليز وقاوموهم ببسالة، وكانت أخبارهم تنشر بشكل دورى فى الصحف المحلية، رغم الرقابة الإنجليزية عليها، من المسلمين نوعا من الدعم المعنوى الكبير لهم. وكانت أخبارهم تشغل المستعمرة البريطانية البعيدة منذ بدأت محاكمتهم، وحتى قبل إقلاع السفينة التى أقلتهم من السويس. كما كانت أخبار وفودهم المرتقب، واستئجار الأماكن التى سوف ينزلون فيها، ويقيمون بها، تملأ الصحف قبل أسبوع كامل من وصولهم. ففى 3 يناير نشرت جريدة «سيلان تايمز» (Ceylon Times) أن الحكومة استأجرت بيت البحيرة Lake House ليكون مقرا لعرابى باشا، وفى اليوم التالى نشرت الصحف أن ثمة حاجة لأكثر من منزل فخم لإقامة بقية الباشوات الذين سيفدون معه، فاستأجرت أربعة بيوت أخرى هى بيت هارلم Haarlem House، ومقر برايبروك Braybrooke Lodge، وبيت سترون Struan House، والدير The Priory وهى كلها من العقارات الكبيرة التى تليق بمكانتهم. وحرص مسلمو سرنديب على أن إبداء رأيهم فى مدى ملاءمة مثل تلك البيوت لحياة الأسر المسلمة.
لكن دعنى أتوقف معك قليلا أيها القارئ العزيز عند الصدف التى جعلتنى أقيم ليلتى الأولى فى كولومبو فى نفس المكان الذى هبط به العرابيون فيها. فقد كانت الرحلة التى استغرقت بهم أسبوعين كاملين فى عرض البحر، قد أخذتنى إلى كولومبو فى ساعات قليلة من الطيران. كان أول ما وجدته عندما هبطت بى القاهرة فى مطار كولومبو فى الصباح الباكر، أن موظف الجوازات أخذ يقلب صفحات جواز سفرى، لا بحثا عن صفحة فارغة حتى يبددها بوضع ختم الوصول فى وسطها كما هو دأب موظفى الجوازات فى قطر، بالصورة التى دفعتنى إلى تغيير جواز السفر قبل أن تنتهى مدته لتبديدهم لصفحاته، فى نوع من استمرار سفه التبديد الاستهلاكى الذى يسم الحياة فى الخليج. وإنما عن صفحة بها أختام أخرى وبها مكان فارغ يكفى لأن يلصق الطابع المطلوب ويضع الختم دون أن يبدد صفحة كاملة فى جواز السفر. وقد لفتت هذه اللمسة المتحضرة بحق نظرى، فشكرته.
وما إن أخذت حقيبتى وخرجت إلى بهو هذا المطار الصغير النظيف، حتى وجدت شيئا قريبا مما يصادفه أى غريب يصل إلى مطار القاهرة من إلحاح أصحاب مكاتب الليموزين، وسائقى السيارات على أخذك إلى وسط المدينة. وكنت قد سألت عن الأسعار سلفا، وعرفت أن أفضل وسيلة انتقال من المطار إلى المدينة هى التاكسى، وأن من الأفضل استخدام تاكسيات أصحاب مكاتب الليموزين. ولكنى وجدت أنهم يريدون منى الانتظار حتى يجدوا شخصا آخر يذهب معى بنفس السيارة، فتركتهم وخرجت إلى خارج مبنى المطار، حيث وجدت سائقا عرف مكان الفندق وعرض على سعرا أقل من سعر المكاتب الموحد قليلا، فاستأجرته. وقد أخبرنى من البداية أنه نظرا للعمل الدائر فى إنهاء طريق المطار الجديد الذى تستعد به سيريلانكا لاستقبال مؤتمر الكومنويلث الذى سيعقد بعد شهر بها، فإنه سيلجأ إلى الطرق الجانبية كى يتجنب الاختناقات المرورية. وأخذنى فى طرق صغيرة أقرب ما تكون إلى الطرق المنتشرة فى أنحاء الدلتا، والتى يمر معظمها وسط البيوت. وكان أول ما لاحظته طوال الطريق هو أن معظم البيوت صغيرة، ومن طابق واحد، ولكنها محاطة بمساحات واسعة نسبيا من الخضرة اليانعة. تلك الخضرة الاستوائية الكامدة والتى تشعر بأنها غنية بالكلوروفيل بشكل واضح. وأننى بالفعل فى بلد لا يزال فقيرا، ولكنه أكثر نظافة، فى ريفه ومدينته معا، مما هو الحال عندنا فى مصر. وقبل أن «يلعب الفأر فى عبى» وأبدأ فى التشكك فى أننى ربما وقعت فريسة سائق تاكسى يريد أن يأخذنى إلى مناطق ريفية مهجورة كى يستولى على ما معى، بدأت بشائر أطراف مدينة كولومبو، وبدأ ميناؤها فى الظهور.
وكنت حينما أعددت لرحلتى لزيارة سيريلانكا، وأنا أعتزم فى تلك الرحلة الأولى تتبع خطوات العرابيين وآثارهم فيها، قد حجزت عن طريق وكالة رحلات لندنية أتعامل معها منذ سنين، فندقا فى كولومبو بناء على وصف الوكالة له، وعلى موقعه فى مركز المدينة وبالقرب من أبرز معالمها السياحية وعلى أسعار غرفة بالطبع. وهو فندق بنى فى القرن التاسع عشر على الطراز الكولونيالى العريق، وهو الطراز الذى أفضله كثيرا فى الفنادق على الطراز الأمريكى الحديث، بتنميطاته العقيمة وجشعها الاستهلاكى، وكأن تلك الفنادق كلها خارجة من نفس المصنع. بينما الفنادق الكولونيالية القديمة يتمتع كل منها بشخصيته المميزة والمستقلة. بل إن اسم الفندق نفسه كان مغريا (الفندق الشرقى الكبير Grand Oriental Hotel) ومترعا فى الوقت نفسه بوعود عزّ قديم، لأنه كان فندق ثلاثة نجوم رغم عظمة الاسم وعراقة المبنى معا. وما إن وصلت إلى الفندق الذى ذكرنى كثيرا بعمارة فندق سميراميس القديم، بشرفته التى كان يجتمع فيها توفيق الحكيم مع حفنة من المثقفين كل جمعة، وقبل هدمه وبناء هذا الفندق الأمريكى القبيح مكانه، حتى أدركت أننى كنت سعيد الحظ بالحجز فيه، بل وكنت فى موعد به مع هدفى من الزيارة. ليس فقط لأننى اكتشفت أنه بنى عام 1837، أى قبل وصول عرابى إلى سرنديب بست وأربعين سنة، ولكن أيضا لأنه يطل على الميناء، ويواجه مبنى الميناء الرئيسى، كما ترى من الصور التى التقطتها من شرفته. وتطل شرفة المطعم الكبير فيه، حيث كنت أتناول إفطارى كل صباح، على الميناء وعلى الرصيف الذى رست عليه السفينة «مريوط» التى أقلت العرابيين إلى كولومبو، ووصلت إلى مينائها مساء التاسع من يناير 1883 فوجدته يعج بالمنتظرين بصورة لا تسمح حتى للركاب بالنزول. مما جعل العرابيين يقضون ليلة إضافية فى الباخرة قبل أن يغادروها فى الصباح باستقبال لم يحلم أى منهم به.