دعوات تُوجَّه إلى وزير الدفاع بالترشح للرئاسة، تحمل فى طياتها تمثيلا وتعبيرا عن مصالح ورؤى عدة حول شكل ونمط إدارة الدولة المصرية فى الفترة المقبلة، ما بين دعوات ناصرية وقومية ترى فى ترشح وزير الدفاع عودة للأمجاد الناصرية التى تريد استنساخها، وما بين دعوات ترى فى وزير الدفاع الشخص الأقدر على مواجهة الإرهاب وإعادة الاستقرار أيا كان شكل هذا الاستقرار، وما بين من تحمل أذهانهم موقفا بطوليا فى مواجهة خطر هدد الدولة المصرية وكاد يقضى عليها، وما بين من ينتظرون من ترشحه ردًّا لكرامتهم التى أهدرتها الثورة المصرية بحكم انتمائهم إلى النظام القديم ومشاركتهم فى فساده وآمالهم بأن يكونوا جزءًا من الترتيبات الجديدة داخل نظام جديد يستعيد به هؤلاء وضعهم القديم.. نوازع وأهداف تختلف، ما بين أهداف وطنية خالصة، أو أهداف قوامها المصلحة السياسية (المشروعة أو غير المشروعة)، أو أهداف أخرى تجمع بين الأمرين (يتقاطع فيها العام بالخاص)، فيظل التساؤل المطروح هل سيترشح وزير الدفاع المصرى للرئاسة؟ وما النتيجة المترتبة على هذا القرار حال اتخاذه؟
أولاً: حصانة وزير الدفاع هل هى قائمة أم لا؟
لا شك أن الجزء الأكبر من حيثيات القرار لدى الفريق عبد الفتاح السيسى نفسه، وهنا فصاحب القرار ومن منطلق سياسى بحت سيضع فى اعتباره تخوفا أساسيا، متعلقا ربما بمَن هو قادم للرئاسة فى حالة عدم ترشحه للمنصب، فالواقع الدستورى يقول إن وزير الدفاع شأنه شأن أى وزير آخر فى ما يتعلق بآلية عزله، فالدستور الذى سيجرى الاستفتاء عليه فى منتصف يناير لم يحصّن وزير الدفاع من آلية العزل المطبقة على نفس الوزراء فى الحكومة بأكملها، وجاء نص المادة المتعلقة بوزير الدفاع مادة «234» من الأحكام العامة والانتقالية «يكون تعيين وزير الدفاع بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وتسرى أحكام هذه المادة لدورتين رئاسيتين كاملتين اعتبارا من تاريخ العمل بالدستور.» وبالتالى تبقى كل الاختيارات قائمة فى ما يتعلق بمستقبل السيسى وزيرا للدفاع حالة مجىء رئيس جديد، ولو من الناحية النظرية. وأيا كانت الضمانات المقدمة إليه من المرشحين الأوفر حظا، وما يحظى به السيسى من دعم شعبى، غير أن الواقع النظرى يشير إلى أمر آخر، أن السلطة السياسية القادمة تملك الحق فى عزل الرجل، ولا يمكن بسهولة إزالة ما تركته التجربة التاريخية القريبة فى الذاكرة، والتى تحمل هذه الدلالة، والقائمة على فكرة المقايضة الداخلية والخارجية على قيادات من الجيش مع بداية عهد رئاسى جديد، فمن المؤكد أن ما فعله الإخوان بدعم غربى مع قيادات الجيش السابقين لا يزال فى مخيلة الرجل، حتى مع كل الضمانات التى قدموها إلى هؤلاء، وحتى مع كل الدعم الشعبى الذى يحظى به السيسى الآن، أخذا فى الاعتبار التقلبات المزاجية لدى الشعب المصرى والظروف والأحداث المتغيرة بشكل سريع داخل المجتمع المصرى، بل وغير المتوقعة فى أوقات عدة، وما قد يقدمه الرئيس الجديد بعد الإجهاز على الإخوان من محاولات ربما لأن يبدو عهده معها بمنزلة تأسيس جديد قائم على تسويات سياسية داخلية وخارجية قد يكون السيسى ضحيتها، وقد تقدم قوى خارجية حوافز فى سبيلها، بغية طى صفحة مرحلة، وتدشين مرحلة جديدة، وفق علاقات داخلية وخارجية مختلفة.. فليس هناك ضمانات ترتقى إلى ما يراه وزير الدفاع مكافئا لدرجة الخطر التى وضع نفسه فيها بموقفه الإيجابى من الموجة الثانية للثورة المصرية فى يونيو.
بين الميدانيين والسياسيين الجدد داخل الجيش
حيثيات الاختيار فى ما يتعلق بترشح وزير الدفاع المصرى لا تقع فى يدى الفريق السيسى فحسب، فهناك أبعاد أخرى داخلية وخارجية، تمثل قسطا مهما فى اتخاذ القرار، من بينها البعد الداخلى الذى يمثل أبرز ما فيه الوضع داخل المؤسسة العسكرية نفسها، والتباين القائم فى الآراء والرؤى داخلها، أو الصف الأول من قيادتها، ما بين من يمكن أن نطلق عليه «القادة الميدانيين»، و«القادة العسكريين-السياسيين» والتعبير الأخير ربما يستخدم كوصف لجيل الضباط الذى صار خلال الأعوام الثلاثة الماضية، محتكا بشكل مباشر ومشتبكا مع صناعة القرار السياسى فى البلاد، سواء بالفعل المباشر أو غير المباشر، منذ أن أعلن تنحى مبارك، والإعلان عن تولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة إدارة شؤون البلاد فى 11 فبراير. وهنا فالحديث عن القادة «العسكريين-السياسيين» يكون عن مجموعة من القيادات العسكرية أبرز من فيهم من حيث امتلاك أدوات التأثير اللواء محمد العصار، ورئيس المخابرات الحربية اللواء محمود حجازى، ومدير مكتب وزير الدفاع نفسه، والوجه الجديد الشاب: العقيد أحمد على، وهنا فالفريق «العسكرى-السياسى» قد يكون أميل إلى ترشح الرجل وفقا لقراءتهم السياسية للوضع وولائهم لوزير الدفاع، وهو ما يتباين نسبيا مع قراءة الفريق الميدانى، الذى ينصب تركيزه بشكل أكثر على رغبة فى إبقاء الجيش بعيدا عن السياسة قدر الإمكان، والتركيز على الأداء الاحترافى «غير السياسى» بشكل مباشر، وهى وجهة نظر تغلب فيها الرغبة فى الإبقاء على وضع المؤسسة العسكرية كحام للشرعية المدنية من الأخطار التى تهدد الدولة المصرية، على غرار الوضع فى تركيا الذى لعبه الجيش على مدار عقود، وبعبارة أخرى فقد يرى هؤلاء أن الجيش حامٍ لنظام سياسى بما يحول دون تأثر الجيش المصرى وتركيبته بشكل أو بآخر، على غرار الوضع فى تركيا الذى استمر لعقود تقريبا، حيث ظل الجيش التركى بمنزلة فاعل ضامن لمسار سياسى محدد وحامٍ لعدم الخروج عن هذا المسار.
هنا فقرار الترشح من عدمه لن يصدر دون أن يكون معبرا عن توافق أو تجانس فى الآراء بين قيادات الصف الأول بتنوعاتهم المختلفة، فاللحظة السياسية خصوصا داخل المؤسسة نفسها بكل ما يحيط بها من الأخطار، تحتم الابتعاد عن أى قرار خارج عن اتفاق عام بين الجميع، فتكاتف الصف الأول داخل الجيش ليس أمرا من قبيل الرفاهية أو من الممكن التعاطى معه سياسيا فى لحظة سمتها التوتر والخطر.
حسابات الموقف الخارجى
الظرف الخارجى وما سيخلفه هو عامل مهم فى حسبة الصف الأول مجتمعيا أو حتى الفريق السيسى منفردا، الذى لن يغفل ما قد يخلفه هذا القرار من أبعاد مؤقتة على شكل العلاقات الخارجية للدولة المصرية. وهنا ينبغى العودة بالذاكرة ربما للخطوة التى أقدم عليها وزير الدفاع المصرى فى 3 يوليو، بدعم التحرك الجماهيرى والإطاحة بمحمد مرسى، وما تلاه من اتصالات على الصعيد الغربى، اتسمت بالوصول إلى أقصى موضع فى هامش الخلاف مع المجتمع الغربى دون تجاوزه لما هو أبعد (الخلاف الهادئ رغم حدته)، فالرجل أدرك وبحكم المدرسة المختلفة عن مدرسة الجيل الأقدم فى الجيش الذى أطاح به محمد مرسى مساحة الحركة والحد الأقصى من العداء الذى يستطيع الاقتراب منه دون تجاوزه، حرصا على المصالح المصرية الغربية، بما قد يسمح بعداء وقتى دون أن تصل حدة هذا إلى نفس درجة المعاداة التى حدثت إبان حكم جمال عبد الناصر والتى منحت الأخير عداء غربيا كاملا. فالحسبة السياسية، التى انتهجها السيسى، أقرب إلى المدرسة الأمريكية فى إدارة الصراع (الصراع داخل هامش محدد).. وهنا فالتفكير فى.. هل سيخلف قرار ترشحه تجاوزا للحد الأقصى من عدمه؟ (هو محور مهم فى اتخاذ القرار) وحسبة ما سيخلفه القرار خارجيا؟ وهنا سيظل القرار مستندا على جس نبض الحلفاء الغربيين من القرار، وهو موقف قد يبدو أقصى تقدير أو بمنطق توقع الأسوأ حال فوز وزير الدفاع المصرى بمنصب الرئيس مجرد إعراب عن قلق أو اهتمام إن حدث، لكنه فى الأغلب لن يكون أبعد من ذلك وسيخفت لاحقا، فالمعيار الغربى فى الحكم أو اتخاذ المواقف هو المصلحة السياسية ومبدأ الاستقرار فى المنطقة.. أما عن شكل العلاقات الأمريكية المصرية، فمحدد لها الأسس نفسها، بالإضافة إلى شكل العلاقة مع إسرائيل.
من ناحية أخرى، فإن قرار الترشح من المؤكد أن قبوله على المستوى الخليجى واضح منذ اللحظة الحالية، وهنا فالطرف الخليجى لاعب مهم فى شكل العلاقات العربية الإسرائيلية وحماية المصالح الأمريكية فى الشرق الأوسط.
أيضا الدعم الشعبى الداخلى للقرار، ومدى شفافية الانتخابات ونزاهة نتائجها، كلها أمور أساسية فى بناء الموقف الغربى أو الموقف الذى سيتخذه الغرب ولو بصورة شكلية.
ما بين الاستقالة من منصب وزير الدفاع وإعلان النتائج.. اللحظات الأصعب
ربما يمثل التفكير فى تلك الفترة القصيرة الهم الأكبر لدى وزير الدفاع حال إن اتخذ القرار، تلك الفترة التى تفصل ما بين استقالته من منصب وزير الدفاع إلى لحظة إعلان الفوز القادر على تحقيقها، حيث يكون الرجل دون أى سلطة رسمية يمكن أن يمارسها، أو يؤثر بها، وهو ما قد يجعل تخيل تلك الفترة بالنسبة إلى وزير الدفاع المصرى هى المرحلة الأكثر قلقا لديه.. خصوصا أن الجانب النظرى فى اللحظات التى تمر بها مصر الآن يتقاطع بكثير مع الواقع العملى الذى نعيشه، تقاطع قائم على فكرة الصراع فى المجتمعات التى تمر بها الدول فى أثناء عملية الانتقال والتى تكون على أشدها بين أطراف مؤثرة فى البنية القديمة للدولة.
ليس لدى معلومات مكتملة سوى شواهد أو تحليل شخصى حول مؤشرات هذا الصراع الذى قد يكون على أشده، تدخل فيه أبعاد عدة متعلقة بترتيب المصالح والرؤى المختلفة لما هو قادم والرغبة فى كيف يجب أن يكون وفق نظرة ومصلحة كل طرف، لكن المؤكد أن استقالة وزير الدفاع من منصبه دون وجود اتفاق كامل على الأقل من قيادات الصف الأول من الجيش المصرى على القرار ودعم ضمنى من القوى الدولية الأكثر تأثيرا حتى مع وجود نتيجة نزيهة مضمونة ستظل مصدر قلق للرجل حتى لحظة إعلان النتيجة.
وإن كان الأكيد أن الفروق بين الفريق السيسى وأحمد شفيق فى ما يتعلق بإمكانية التلاعب فى النتائج النهائية للانتخابات خصوصا مع اختلاف اللحظة السياسية وما تحويه، فروق كبيرة وجوهرية، لكن على المستوى النفسى كحد أدنى ربما سيظل تخيل إدارة مجريات تلك الفترة التى يعلن فيها وزير الدفاع عن استقالته مصدرا لكثير من الأسئلة والحسابات التى قد تدور فى رأس الجنرال وهو يتخذ القرار بالترشح من عدمه.
ثانياً: فرص الفوز
النتائج قد تكون محسومة لصالح الرجل من الجولة الأولى حال خوضه معركة انتخابية بإجراءات نزيهة فى مواجهة كل من لديهم النية فى الترشح الآن أو متوقع خوضهم تلك الانتخابات.. فالأوزان النسبية للجميع تكاد -وللأسف- تكون ضئيلة للغاية فى ظل هوى جارف لفكرة الاستقرار أو التخوف من المجازفة أو تكرار تجربة الماضى مع أى من كان من المرشحين وأى ما كان يحظى به هؤلاء من مصداقية، وفى ظل ظروف غير متكافئة من الناحية النظرية.. بل إن كثيرا منهم، الذين رأيناهم كانوا أوفر حظا فى مواجهة محمد مرسى فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة، قد لا يقدمون على الترشح من الأساس حال نزول وزير الدفاع المصرى، فالقطاعات التى يستهدفها أحمد شفيق تصويتيا مثلا أصبحت بحكم طبيعتها منحازة بل وداعمة لترشح الفريق عبد الفتاح السيسى، أما القطاعات التى دعَّمت ترشح حمدين صباحى فى الانتخابات الماضية فسيختصم منها الفريق السيسى أيضا بحكم التخيل الناصرى الذى قد يطمحون فى أن يجسده السيسى بعد فوزه.. بينما يظل قرار عمرو موسى بالترشح للانتخابات القادمة احتمالا ضعيفا، رغم ما صنعه من إنجاز متعلق بالدستور يؤهله لأن يصنع معركة جيدة فى هذا الشأن.. ولكن يبقى السؤال: ما تأثير هذا الفوز على المستقبل السياسى والاقتصادى لمصر؟
سياسيا، لا شك أن فوز الفريق السيسى بمقعد الرئاسة سوف يسهم بشكل كبير فى ضبط حدة الصراع داخل البنية البيروقراطية والأمنية للدولة المصرية، وسيخلق مركزا موحدا رسميا للسلطة فى البلاد (موزعا بين الرئيس والبرلمان)، ينهى فوضى الصراع أو الجزر المنعزلة فى اتخاذ القرار أو التأثير أو الصراع عليه (نحن نتحدث هنا عن الصراع البيروقراطى والأمنى)، الذى بدا آخر شواهده حزمة من التسجيلات الهاتفية التى سربت لأحد الصحفيين وأذاعها على الهواء فى فعل هو الأخطر، بدا أن كل جهاز أمنى فى مصر يحاول التنصل من مسؤولية التسريب، بل وقد يحمله كل طرف للطرف الآخر بشكل مبطن. إذن أن تكون سلطة الدولة موزعة على مركزين فقط وفقا لما هو موجود فى متن الدستور حال إن تمت الموافقة عليه، وهى ميزة لا يمكن إنكارها، لكن فى المقابل يظل التخوف على مدى قدرة السلطة السياسية الجديدة فى البلاد على تجاوز أمرين.
الأول: وهو حدة التوتر السياسى القائم فى البلاد، وما يخلفه فوز السيسى من استمرار العداء للسلطة السياسية الجديدة من نفس الخصوم، وما قد يخلفه ذلك من ذرائع قد تستثمر لصالح ضرب المرحلة، أو يضاعف مخاوف مشروعة لقطاعات شبابية نحو اتجاه لحكم عسكرى، أو تخشى من تأسيس نظام سياسى هجين (يجمع بين سمات الديمقراطية والاستبداد)، تلك القطاعات التى تضع نفسها فى موقع العداء للسلطة الجديدة منذ اللحظة الأولى، وقد تسعى لتضخيم كرة من الثلج المضادة للوضع السياسى الجديد، وهو فعل بدأ بانشقاقات داخل الأوساط الشبابية فى يوليو 2013، ما بين (اليسار واليمين والقطاعات غير المؤدلجة)، هنا لا يمكن تجاهل هذا البعد وفق منطق تقديرات الموقف الحالية أو نتائج الانتخابات الرئاسية، فى ظل أوضاع سياسية وأمزجة متغيرة للمصريين وظروف اقتصادية صعبة تمر بها البلاد، ولها انعكاسات هى الأكبر فى السنوات العشر الأخيرة، وهو ما ينقلنا إلى الأمر الثانى حول مدى قدرة الفريق السيسى حال فوزه بمنصب الرئاسة من تجاوز الوضع الاقتصادى الصعب.
هنا لدى كثير من الشكوك حول تلك القدرة، وهذا ما يجعلنى حتى هذه اللحظة أرى فى ترشحه خطرا مقارنة بما قد يحمله من ميزات، وهنا فلا يمكن لأحد إغفال مكونات التحالف الذى سيدعم ترشح السيسى وأفقه السياسى فى التعاطى مع المشهد الراهن سياسيا واقتصاديا، وهو التحالف الذى سيظل قوامه الأعظم قطاعات الاستقرار والبيروقراطية، بل والراغبين فى إعادة النمط القديم فى إدارة الدولة المصرية (دولة الفرد)، آخذة فى حسبانها أن ما ستقدمه من دعم ستنتظر مقابلا له بمنطق السياسة، هذا مقارنة بالقوى الديمقراطية التى قد تمثل الجناح الأضعف فى دعم الرجل، والصوت الأكثر خفوتا ومقدرة على التأثير فى نوعية القرارات السياسية بعد فوزه، حتى وإن كانت جزءا من التحالف الداعم له.
هنا أيضا لا يمكن إغفال الرغبة البيروقراطية فى فوزه فى تصور شكل الدولة الجديد، فالبيروقراطية المصرية التى لعبت دور الظهير الاجتماعى لنظام مبارك عبر عقود عانت من مصدر إزعاج وقلق دائم خلال السنوات الثلاث، جعل يدها مرتعشة ومغلولة عن إدارة الأمور وفق الشكل التقليدى الذى عملت به على مدار عقود طويلة، وهو منطق منافق لرأس السلطة، ومترهل فى العمل ومريح بالنسبة إلى أفرادها، يترك مساحة من الفساد للتربح بشكل كارثى فى مواجهة واقع اجتماعى سيئ.. الشعور النفسى لدى قطاعات من هؤلاء أن الحكم الجديد قد يعيد إليها مساحة الثقة فى إدارة الأمور كما كانت عليه، وبدأت تستعيده فى الفترة الأخيرة، فكما يرى البعض أن 25 يناير هى مضادة ومناقضة لـ30 يونيو، تظل البيروقراطية ترى فى 30 يونيو انتصارا على 25 يناير، وأن 30 يونيو وما سيليها يمثل إعادة للأمور كما كانت عليه فى السابق.
ويبقى تخوف رئيسى حول مستقبل التغيير السياسى فى مصر قائما، ما بين طموحات بتغيير جذرى حقيقى يطال المناحى السياسية والاجتماعية للمواطنين، وما بين طموحات بتغيرات متواضعة تريد ربما فى التغيير أن يقتصر على الدوران داخل نخبة الدولة المصرية الأقدر على التعاطى مع البيروقراطية وفق نهج مجرب سلفا.
ثالثاً: أى نتائج مترتبة على فوز السيسى بمنصب الرئاسة؟
سياسيا، لا شك أن فوز الفريق السيسى بمقعد الرئاسة سوف يسهم بشكل كبير فى ضبط حدة الصراع داخل البنية البيروقراطية والأمنية للدولة المصرية، وسيخلق مركزا موحدا رسميا للسلطة فى البلاد (موزعا بين الرئيس والبرلمان)، ينهى فوضى الصراع أو الجزر المنعزلة فى اتخاذ القرار أو التأثير أو الصراع عليه (نحن نتحدث هنا عن الصراع البيروقراطى والأمنى)، الذى بدا آخر شواهده حزمة من التسجيلات الهاتفية التى سربت لأحد الصحفيين وأذاعها على الهواء فى فعل هو الأخطر، بدا أن كل جهاز أمنى فى مصر يحاول التنصل من مسؤولية التسريب، بل وقد يحمله كل طرف للطرف الآخر بشكل مبطن. إذن أن تكون سلطة الدولة موزعة على مركزين فقط وفقا لما هو موجود فى متن الدستور حال إن تمت الموافقة عليه، وهى ميزة لا يمكن إنكارها، لكن فى المقابل يظل التخوف على مدى قدرة السلطة السياسية الجديدة فى البلاد على تجاوز أمرين.
الأول: وهو حدة التوتر السياسى القائم فى البلاد، وما يخلفه فوز السيسى من استمرار العداء للسلطة السياسية الجديدة من نفس الخصوم، وما قد يخلفه ذلك من ذرائع قد تستثمر لصالح ضرب المرحلة، أو يضاعف مخاوف مشروعة لقطاعات شبابية نحو اتجاه لحكم عسكرى، أو تخشى من تأسيس نظام سياسى هجين (يجمع بين سمات الديمقراطية والاستبداد)، تلك القطاعات التى تضع نفسها فى موقع العداء للسلطة الجديدة منذ اللحظة الأولى، وقد تسعى لتضخيم كرة من الثلج المضادة للوضع السياسى الجديد، وهو فعل بدأ بانشقاقات داخل الأوساط الشبابية فى يوليو 2013، ما بين (اليسار واليمين والقطاعات غير المؤدلجة)، هنا لا يمكن تجاهل هذا البعد وفق منطق تقديرات الموقف الحالية أو نتائج الانتخابات الرئاسية، فى ظل أوضاع سياسية وأمزجة متغيرة للمصريين وظروف اقتصادية صعبة تمر بها البلاد، ولها انعكاسات هى الأكبر فى السنوات العشر الأخيرة، وهو ما ينقلنا إلى الأمر الثانى حول مدى قدرة الفريق السيسى حال فوزه بمنصب الرئاسة من تجاوز الوضع الاقتصادى الصعب.
هنا لدى كثير من الشكوك حول تلك القدرة، وهذا ما يجعلنى حتى هذه اللحظة أرى فى ترشحه خطرا مقارنة بما قد يحمله من ميزات، وهنا فلا يمكن لأحد إغفال مكونات التحالف الذى سيدعم ترشح السيسى وأفقه السياسى فى التعاطى مع المشهد الراهن سياسيا واقتصاديا، وهو التحالف الذى سيظل قوامه الأعظم قطاعات الاستقرار والبيروقراطية، بل والراغبين فى إعادة النمط القديم فى إدارة الدولة المصرية (دولة الفرد)، آخذة فى حسبانها أن ما ستقدمه من دعم ستنتظر مقابلا له بمنطق السياسة، هذا مقارنة بالقوى الديمقراطية التى قد تمثل الجناح الأضعف فى دعم الرجل، والصوت الأكثر خفوتا ومقدرة على التأثير فى نوعية القرارات السياسية بعد فوزه، حتى وإن كانت جزءا من التحالف الداعم له.
هنا أيضا لا يمكن إغفال الرغبة البيروقراطية فى فوزه فى تصور شكل الدولة الجديد، فالبيروقراطية المصرية التى لعبت دور الظهير الاجتماعى لنظام مبارك عبر عقود عانت من مصدر إزعاج وقلق دائم خلال السنوات الثلاث، جعل يدها مرتعشة ومغلولة عن إدارة الأمور وفق الشكل التقليدى الذى عملت به على مدار عقود طويلة، وهو منطق منافق لرأس السلطة، ومترهل فى العمل ومريح بالنسبة إلى أفرادها، يترك مساحة من الفساد للتربح بشكل كارثى فى مواجهة واقع اجتماعى سيئ.. الشعور النفسى لدى قطاعات من هؤلاء أن الحكم الجديد قد يعيد إليها مساحة الثقة فى إدارة الأمور كما كانت عليه، وبدأت تستعيده فى الفترة الأخيرة، فكما يرى البعض أن 25 يناير هى مضادة ومناقضة لـ30 يونيو، تظل البيروقراطية ترى فى 30 يونيو انتصارا على 25 يناير، وأن 30 يونيو وما سيليها يمثل إعادة للأمور كما كانت عليه فى السابق.
ويبقى تخوف رئيسى حول مستقبل التغيير السياسى فى مصر قائما، ما بين طموحات بتغيير جذرى حقيقى يطال المناحى السياسية والاجتماعية للمواطنين، وما بين طموحات بتغيرات متواضعة تريد ربما فى التغيير أن يقتصر على الدوران داخل نخبة الدولة المصرية الأقدر على التعاطى مع البيروقراطية وفق نهج مجرب سلفا.