كنت أريد أن أكتب مقالًا أطالب فيه السادة المسؤولين فى وزارة الداخلية بالكف عن الممارسة غير الآدمية والمخالفة للقانون باستعراض صور المتهمين الذين يتم القبض عليهم يوميًّا فى المواجهات بين الشرطة وأنصار جماعة الإخوان، سواء على مستوى القيادات الكبيرة، أو الطلبة والطالبات من المتظاهرين. وأنه فى حال الحاجة القصوى إلى تقديم دلائل على النشاط المتواصل لأجهزة الأمن فى مواجهة الإخوان وتورطهم فى أعمال عنف وتخريب، فليتم الاكتفاء بتصوير المتهمين من الخلف، أو تغطية وجوههم بالوسائل الإلكترونية الحديثة، وذلك لأن الدول السلطوية القمعية فقط هى التى تستهين بأبسط حقوق المواطنين، وعلى رأسها احترام خصوصيتهم وعدم التشهير بهم، والتعامل معهم على أنهم مدانون قبل أى تحقيق أو محاكمة فى انتهاك صريح للقاعدة التى يعرفها الجميع من أن «المتهم برىء حتى تثبت إدانته».
كنت أعيش فى وهم أننا وبعد الخلاص من عهد الديكتاتور المخلوع مبارك، سيكون على رأس أولويات نظام الحكم الجديد احترام آدمية وكرامة المواطن المصرى. لكن تبين أن موضوع تصوير المتهمين على يد كاميرا جهاز أمن الدولة، حاليا الأمن الوطنى، تافه وأقل من العادى فى بلدنا العزيز بعد قيام أحد البرامج التليفزيونية بإذاعة سلسلة التسجيلات الهاتفية الخاصة بعدد من الشخصيات التى كان لها دور فاعل فى ثورة 25 يناير، وسط حملة تشويه متعمدة وواضحة لا يمكن أن تخطئها عين لتلك الثورة الشعبية التى أطاحت بعصابة كاملة من الفاسدين كانت تحكم هذا البلد، والتى كان يوفر لها الحماية جهاز أمنى عتيد شكا الجميع، بما فى ذلك القوات المسلحة، من سطوته ونفوذه وتغوله.
فى الأيام الأولى من ثورة يناير العظيمة، كنا نسمع أصواتًا تمثل الجناح الإعلامى للعصابة الحاكمة تكذب بفجاجة كما اعتادت دائمًا على مدى الأعوام الثلاثين من حكم مبارك، وتزعم أن من فى ميدان التحرير يحركهم إيرانيون وفلسطينيون، وأن مصر تتعرض لمؤامرة خارجية. هى الأصوات التى روجت أن المتظاهرين كانوا يتقاضون الأموال ووجبات الدجاج الأمريكى وحديث الأجندات، بل، ويا للغرابة، إعلانات تليفزيونية لشركات عالمية اكتشفت بعبقريتها أنها كانت تحوى توجيهات للقائمين على تلك الثورة. هل مصادفة أن هذه الأصوات هى التى عادت بقوة الآن بعد أن توارت على استحياء، لتنعق فى وجوهنا بلا خجل وتردد نفس الاتهامات قبل أسابيع قليلة من الذكرى الثالثة لتلك الثورة الشعبية؟
هذه الأبواق التى لديها قوالب جاهزة من الاتهامات المحفوظة فى ملفات صفراء منذ عصر بناء الدولة الأمنية العتيدة فى الخمسينيات والستينيات، التى تقوم دائمًا على أن مصر تتعرض لمؤامرة كبيرة من نفس الدول الغربية التى يتعاونون معها يوميًّا ويتقاضون منها العمولات، هى التى تهلل وتصهلل الآن لتلك المجموعة المنتقاة من التسجيلات، والممنتجة بوضوح حتى لغير الخبير، لعدد من نشطاء ثورة 25 يناير. ولأن هذه الأصوات لا يهمها القانون، ولا يحزنون، وكل ما يهمها هو التشفى والانتقام ممن أنهوا دولتهم وقطعوا عنهم سيل أموال الفساد، فلقد تم تجاهل كل الانتهاكات القانونية الظاهرة فى إذاعة تلك التسجيلات، وتحول الأمر إلى حملة منظمة تدعو لمحاكمة هؤلاء النشطاء بتهم الخيانة والتآمر، وذلك لأن المطلوب بوضوح هو محاكمة كل من شاركوا وأيدوا ثورة 25 يناير.
كنت أتمنى لو أنه كان لدينا «سنودن» مصرى من داخل جهاز الأمن الذى سرّب هذه الأشرطة وسلمها لمندوبهم فى القناة التليفزيونية التى أذاعت تلك التسجيلات، ووجدنا أنفسنا أمام مئات الآلاف من المكالمات التى تشمل الجميع، بداية برأس الدولة، مبارك، الذى كان يدينون له بالولاء، ويرون فى حمايته حمايةً لأنفسهم ونفوذهم وفسادهم، ومرورًا بنجله، وزوجته أنطوانيت مصر، وكل أصدقاء البيه الصغير، لتكشف عن صفقاتهم الكريهة وتعاملهم مع الوطن على أنه عزبة خاصة يقتسمون أرباحها ولا يلقون حتى بالفتات لشعبها الفقير، واستهانتهم على مدى ثلاثين عامًا بتزوير الانتخابات وقمع الحريات، ونهاية بكل الشخصيات السياسية الأخرى، بما فى ذلك النشطاء الشباب الذين ما كان لدعوتهم للثورة أن تنجح لو أن الكيل لم يكن قد طفح بملايين المصريين من ممارسات وفساد نظام المخلوع.
لكن الجهاز الأمنى الذى منح مندوبه القديم فى المحطة التليفزيونية هذه التسجيلات الخاصة بنشطاء الثورة، هو نفس الجهاز الذى فرم وأخفى وامتنع عن تسليم الأدلة التى يمتلكها لإدانة رموز فساد حقبة امتدت ثلاثين عامًا، ولكشف المتورطين عن قتل المئات من المتظاهرين فى أحداث ثورة يناير واصطيادهم بالقناصة ودهسهم بالمدرعات، وذلك لأنه كان جزءًا أصيلًا من منظومة الفساد، ومن المستحيل أن يقدم أدلةً يدين بها نفسه ورفاق وشركاء الأمس. لكنه يعود الآن لملاحقة من يرى أنهم المسؤولون عن حجم الإهانة التى تعرض لها والإضعاف المؤقت لنفوذه وهيمنته، ويقدم لصاحب التاريخ الأسود فى التعامل مع أجهزة الأمن تلك الأشرطة المنتقاة ليذيعها فى برنامجه بزعم حرية الصحافة وحق المواطنين فى المعرفة.
أكثر ما يرسخ الإحساس بالعبث والهبل الذى نعيش فيه أن من يقوم بإذاعة هذه التسجيلات يريدنا أن نصدق أنها جاءته فى مظروف مغلق طائر يحتوى سى ديهات، ومكتوب عليها اسمه من طرف يخاف على البلد ويريد كشف المتآمرين على أمنها. كان يجب أن تكون الحكومة أول من يتدخل لوقف هذه المهزلة، وذلك لو أننا نتمسك بأبسط مبادئ دولة القانون، أو لو كان لديها النية لإقناعنا بأنها جادة بالفعل لتطبيق مواد الدستور التى ترغب من المواطنين التصويت عليه بنعم بعد أيام، بكل ما يحتويه من ضرورة احترام خصوصية المواطن، وعدم قانونية التسجيلات الهاتفية من دون إذن من النيابة أو قاضى التحقيق. لكنها رغبة الانتقام الجارفة لدى من يسعون لمحاكمة ثورة 25 يناير.