يوم الجمعة الماضى خسر «الاتحاد الأمريكى للحريات المدنية» دعوى قضائية كان أقامها أمام محكمة فى نيويورك، طالب فيها بإلزام إدارة البيت الأبيض بإنهاء عار التجسس والتنصت على هواتف ملايين الناس داخل وخارج الولايات المتحدة، وقد تحرك الاتحاد تحت ضغط تلك الفضيحة المدوية التى كشف تفاصيلها المذهلة على مدى شهور العام الماضى شاب حى الضمير يدعى «إدوارد سنودن»، كان متعاقدا للعمل كفنى مع إحدى وكالات المخابرات الأمريكية.
قاضى محكمة نيويورك أصدر حكما صادما ومروعا فى القضية، إذ قضى بأن وقائع التجسس الهوجاء الخطيرة التى فضحها هذا الشاب، وطالت قادة دول بعضها حليف حميم للولايات المتحدة «منهم مستشارة ألمانيا إنجيلا ميركل» إنما هى «نشاط شرعى» وضرورى للوقاية من جرائم الإرهاب كما وصفه بأنه «لطمة قوية مضادة لتنظيم القاعدة»!!
وقد دافع القاضى وليم بولى فى حيثيات حكمه الذى جاء فى 53 صفحة دفاعا متحمسا ومجيدا عن برنامج «PRISM» للتنصت على الاتصالات الهاتفية والمراسلات الإلكترونية، وقال إنه لو كان هذا البرنامج معمولا به قبل هجمات الحادى عشر من سبتمبر 2001 «ربما كان ساعد سلطات الأمن فى إحباطها ومنع وقوعها» من أصله، كما بدا قاضى محكمة نيويورك كأنه يفند حكما تمهيديا فى الموضوع نفسه كانت محكمة أخرى فى واشنطن أصدرته قبل أسبوع واحد، واعتبرت فيه أن الوقائع التى هتك الشاب «سنودن» سترها هى «على الأرجح منافية للدستور الأمريكى» و«مخيفة» أيضا، لكن القاضى بولى فى حكمه قال إن «ميزان أدلة المدعين أمام اعتبارات المصلحة العامة (مكافحة الإرهاب) يميل بشدة لصالح موقف الحكومة الفيدرالية».. لماذا؟! لأن «حق المواطن فى تجنب التفتيش والاعتقال رغم كونه حقا إنسانيا أساسيا، بيد أنه ليس حقا مطلقا» وإنما هو قابل للتقييد عندما يواجه المجتمع أخطارا داهمة تهدد أمنه وسلامه!!
والحق أن القاضى بولى لم يوفر ولا أهمل أى حجة من شأنها شرعنة جريمة تنصت أجهزة الأمن والاستخبارات الأمريكية على الملايين من خلق الله فى الداخل والخارج، حتى إنه توسل بذريعة غريبة من نوع تأكيده أنه «لا يوجد أى دليل يثبت أن الحكومة استخدمت المعلومات التى توفرت لديها من تنفيذ برنامج التنصت فى أى شىء عدا تقويض وإجهاض مؤامرات الإرهاب».. يعنى باختصار، القضية عنده لم تعد قضية مبدأ حماية حريات الناس وضمان عدم اقتحام خصوصياتهم من دون مقتضى أو سبب قانونى، وإنما الموضوع كله معلق على حسن أدب وأخلاق الأجهزة الأمنية، فما دامت هذه الأجهزة «مهذبة ومتربية» وتلزم نفسها طواعية وبمزاجها بأن لا تستعمل المعلومات والأسرار التى تجمعها من خلال ممارسة جريمة التجسس على الناس، فى التشهير بهم أو ابتزازهم وإنما تستخدمها فقط فى الوقاية من الإرهاب ومكافحته وإفساد خطط الإرهابيين، فإن هذه الجريمة لا تعد جريمة ولا عدوانا على حق خطير وأساسى من حقوق البشر، ولا حاجة أبدا خالص ألبتة!!
طيب.. هل لهذا الكلام أى علاقة شريفة بالدروس والمواعظ الوقحة التى لا تكف ولا تخجل واشنطن من تصديع رؤوسنا ورؤوس الدنيا كلها بها، حول ضرورة احترام حريات البشر وحقوقهم؟! نعم له علاقة أكيدة، غير أن هذه «العلاقة» ليست كل أسبابى لفتح الموضوع والتقليب فى أوراق ملف تلك القضية.. وأستأذنك أن أستكمل وأشرح غدًا.