لا أتذكَّر أول مقال كتبتُه عن الإرهاب فى مصر.
أغلب الظن أننى بدأت أكتب مواجهًا الإرهاب ومحللا الإرهابيين لدرجة وضعى (كما هو الحال الآن) على قوائم المهدَّدين بالقتل بين عامَى واحد وتسعين واثنين وتسعين. أى منذ قرابة ثلاثة وعشرين عاما (أقل قليلا من نصف عمرى، وإذا أخذت فى حسابى أن الرئيس السادات تم اغتياله وأنا فى أولى إعدادى فإننى إذن كتبت عن الإرهاب منذ مطلع شبابى).
عن خبرةٍ إذن أقول لكم إن أتفه مَن عرفتُهم فى مسيرة مواجهة الإرهاب هم هؤلاء الجبناء الذين يغطون جُبنهم بالحياد!
وإن أسوأ مَن عرفتُهم هم الأغبياء الذين ينافقون حتى وهُم يواجهون الإرهاب.
وإن أخطر مَن عرفتُهم هم الإرهابيون ذوو القفازات الذين يبررون للإرهاب والذين يثبّطون هِمَم وعزائم مَن يواجهونه.
وإن أكثر صِنف شهدته فى مواجهة الإرهاب هو هؤلاء الذين يتفادون مواجهته ويتجاهلونه.
ولقد حاولت دائما أن لا أسمح لعواطفى (الغاضبة والمستنفَرة خصوصا مع التهديد بالاغتيال) أن تعطِّل عقلى فى الرؤية السليمة للإرهاب والإرهابيين أو أن أقسو على هذا العدد المتوفر دائما فى الساحة من الجبناء والمحايدين والمتجاهلين والمبرِّرين للإرهاب، ملتمسًا العذر بالجهل لجميعهم.
ولعل كثيرًا تابعوا انفتاحى على إرهابيين سابقين وتائبين، بل وبعضهم عمل معى فى صُحف شاركت فى تأسيسها وعَفَوْتُ تمامًا عمَّا سلَفَ من تربُّص لقتلى شخصيا، ثم هناك مَن لمس بل وتهجَّم أيضا على مدى انحيازى المعلَن والمكتوب على مدى سنوات للمطالبة بحق فصيل الإخوان فى العمل السياسى متى التزم بالنهج السلمى. وقد تسامحتُ مع تاريخهم الإرهابى معتقدًا أنهم انقطعوا عنه وتبرؤوا منه.
ماذا الآن إذن؟
هى ذات الرحلة كما بدأناها أول مرة.
نواجه الإرهاب بذات الضراوة التى لا تعرف حيادًا ولا جبنًا ولا تجاهلًا ولا تبريرًا، لكننا مُثْقَلون هذه المرة بالخبرة التى تعلِّمنا أن لا أحد يتعلم.
لكن إذا كان لأحدكم أن يتفضل علينا بالفضول ويسأل: ما الدرس الذى تعلمته؟
فسأُجيب نقاطًا:
الأولى، أن الإرهاب لا يستهدف النظام، بل الدولة، وأن الذى يتحفظ منتقدًا أو معارضًا النظام (المستبد أو الذى يظنه كذلك) فيظن غافلا أنه يستفيد من الإرهاب لضعضعة النظام أو أن الإرهاب أخفّ ضررًا من النظام، فهذا مغفل حمار تبقَّى له أن يَنْهَق، لكن هل معنى هذا التحالفُ مع النظام فى مواجهة الإرهاب؟
الإجابة: لا، فمحاربة الإرهاب لا تعنى ولا تتطلب تحالفًا مع نظام، بل تحالُف مع وطن، مع شعب، مع دولة. ثم إن نظام مبارك كان مستبدا بينما النظام الحالى ليس مستبدا وليس أى حاجة. فنحن الآن أمام اللا دولة، وأى مهادَنَة مع الإرهاب بالصمت أو غض الطرف أو الحياد الأحمق أو تواطؤ الغربان البِيض معناه انهيار أمل استعادة الدولة أصلا.
النقطة الثانية، أنه ليس للإرهاب -كما يحب الجميع أن يردد- أسباب اقتصادية أو سياسية إطلاقا. نعم أقول إطلاقا، لأن من المقولات النمطية البلهاء أن الديمقراطية لن تترك فرصة لنمو الإرهاب، وهذا كلام تدليس، فالثابت أن أعتى الدول ديمقراطيةً تعانى من تيارات ومجموعات وأفراد إرهابيين فيها (هناك إرهابيون من السويد يمارسون القتل والذبح فى سوريا الآن) ثم لا سبب اقتصاديا للإرهاب.
ومن الوضاعة الأخلاقية أن نقول إن الفقراء هم المؤهلون لأن يكونوا إرهابيين، فلا سبب- حتى الفقر المدقع- يدفع بشرًا إلى أن يكونوا إرهابيين قاتلين. فالإرهاب عملية عقلية، لا علاقة لها بالاقتصاد (وارحمونا من تفسيرات ماركسية يتبناها ليبراليون)، فهناك أغنى الأغنياء، كما أفقر الفقراء، يتحولون إلى إرهابيين.
العقل هو مِفتاح كل شىء وقُفْله!