أخيرًا، تمخض جبل الارتباك والتخبط والغباوة عن استعمال سلاح ما يسمى «المعونة» الذى يتوهم الأغبياء فى واشنطن أنه كفيل بتركيع المصريين وإجبارهم على الاستسلام والنكوص عن ثورتهم ومراجعة حكمهم النهائى الباتّ بحظر وإخراج جماعة الشر من التاريخ وسأكتفى فى السطور التالية بتذكير القراء الأعزاء ببعض الحقائق التى تطبع ملامح واحدة من أسوأ وأكبر أكاذيب السياسة فى العصر الحديث، ألا وهى أن مصر تتلقى مساعدة و«معونة» سنوية من الولايات المتحدة الأمريكية، وليس العكس:
- تلك المسماة «معونة» بدأت بشكلها الحالى فى العام 1979 أيام إدارة الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر عقب توقيع أنور السادات معاهدة الصلح مع العدو الإسرائيلى، وعلى رغم خلو بنودها من أى إشارة لهذه المعونة فإن الارتباط بينهما وثيق ومسجل فى تعهدات كتابية رسمية أرسلتها واشنطن آنذاك إلى الحكومتين المصرية والإسرائيلية.
- هذه «المعونة» بدأت بمخصصات سنوية بلغت قيمتها الإجمالية نحو 5.1 مليار دولار، نصيب العدو منها 3 مليارات، أغلبيتها الساحقة اعتمادات وتحويلات مالية مباشرة، بينما المبلغ المتبقى المخصص لمصر (2،1 مليار) فإن النسبة الغالبة منه تأخذ صورة صادرات سلعية تحدد واشنطن أسعارها والشركات الأمريكية التى تنتجها!
- ومع ذلك فإن المبلغ المخصص لمصر خضع ابتداء من العام 1999إلى تخفيضات مطّردة ومنتظمة بواقع 5 فى المئة كل سنة، جرى خصم أغلبها من الجزء الاقتصادى الذى كان 815 مليون دولار، وهبط إلى 407 ملايين. أما إجمالى الرقم فقد استقر منذ عام 2009 عند مستوى 1.3 مليار دولار.. هذا المبلغ لا يمثل الآن سوى نحو 3 من واحد فى الألف من حجم الناتج المحلى الإجمالى لمصر سنويا!
- وإذا ما نحَّينا جانبًا الأثمان السياسية والوطنية الباهظة والخطيرة التى دفعناها تحت غطاء هذه «المعونة»، فقد جنت الولايات المتحدة مكاسب وفوائد مهولة على كل الأصعدة الاستراتيجية والأمنية والاقتصادية كذلك.. يعنى على سبيل المثال لا الحصر، تقول الأرقام إن مجموع مبالغ هذه المسماة «معونة» منذ بدأت وحتى العام 2011، وصلت إلى ما يزيد قليلا على الـ30 مليار دولار، وفى مقابلها حصلت واشنطن من مصر على أكثر من 48 مليار دولار فى صورة فوائض فى الميزان التجارى بين البلدين لصالح أمريكا!
- وبذريعة هذه المعونة، فازت الولايات المتحدة الأمريكية بنفوذ سياسى فى مصر يكاد يكتسب ملامح الاحتلال، كما اغتنمت مزايا وخبرات ومساعدات ومعلومات عسكرية وأمنية لا تقدر بثمن، منها مثلًا أن الجيوش الأمريكية كسبت من خلال نحو 20 مناورة برية وجوية وبحرية مشتركة مع الجيش المصرى خبرات ثمينة جدا فى التعامل مع مسرح العمليات الحربية فى منطقتنا، وقد ظهر أثرها فى العربدات العدوانية الأمريكية التى شاهدناها فى حربَى الخليج الأولى والثانية.. يضاف إلى ذلك فوائد ومزايا أخرى غير مشهورة ولا منظورة من نوع السماح للطائرات الحربية الأمريكية باستخدام مجالنا الجوى ومنحها التصاريح اللازمة «على وجه السرعة»، وتقديم تسهيلات وخدمات بحرية مختلفة لقِطع من الأساطيل الأمريكية بلغ عددها فى الفترة المحصورة بين عامى 2001 حتى 2005 فقط، 861 سفينة وبارجة حربية.. إذن، مَن يعين ويساعد مَن؟!