ايجى ميديا

الجمعة , 1 نوفمبر 2024
ايمان سمير تكتب -وقالوا عن الحرب)مني خليل تكتب -اثرياء الحرب يشعلون اسعار الذهبكيروش يمنح محمد الشناوي فرصة أخيرة قبل مواجهة السنغالايمان سمير تكتب -عيد حبعصام عبد الفتاح يوقف الحكم محمود بسيونيمني خليل تكتب -غياهب الايام الجزء الرابعالمصرى يرد على رفض الجبلاية تأجيل لقاء سيراميكا: لماذا لا نلعب 9 مارس؟مني خليل تكتب -غياهب الايام الجزء الثالثمني خليل - احسان عبد القدوس شكل وجدان الكتابة عنديالجزء الثاني / رواية غياهب الأيام كتبت / مني خليلإحاله المذيع حسام حداد للتحقيق وإيقافه عن العملتعاون بين الاتحاد المصري للدراجات النارية ودولة جيبوتي لإقامة بطولات مشتركةغياهب الايام - الجزء الاول - كتبت مني خليلاتحاد الكرة استحداث إدارة جديدة تحت مسمى إدارة اللاعبين المحترفين،كيروش يطالب معاونيه بتقرير عن فرق الدورى قبل مباراة السنغال| قائمة المنتخب الوطني المشاركة في نهائيات الأمم الأفريقية 🇪🇬 .... ⬇️⬇️اللجنة الاولمبية تعتمد مجلس نادي النصر برئاسة عبد الحقطارق رمضان يكشف سر عدم ترشح المستشار احمد جلال ابراهيم لانتخابات الزمالكنكشف البند الذي يمنع الدكتورة دينا الرفاعي من الاشراف علي الكرة النسائيةوائل جمعة نتتظر وصول كيروش

محاكمة العرابيين.. مهزلة الصفقات ودهاء التوازنات السياسية

-  
نشر: 28/12/2013 7:10 ص – تحديث 28/12/2013 7:10 ص

كانت القوى السياسية المحافظة فى بريطانيا نفسها تخشى أن تتحول محاكمة أحمد عرابى وصحبه إلى محاكمة لبريطانيا

من يراجع ما فعله الخديو عقب انتصار الهزيمة واحتلال بريطانيا لمصر يدرك مدى تعطشه للانتقام من ثوار جيشه

بريطانيا كانت تعى كما تقول كل وثائق خبرائها ودبلوماسييها مدى شعبية عرابى وثورته.. ولا تريد أن تتحمل وزر عقابه

وضعت حكومته يدها على جميع زعماء الثورة ما عدا عبد الله النديم الذى اختفى فى صفوف الشعب

أوفد مجلس العموم البريطانى نفسه السير تشارلز ويلسون ممثلا له لحضور محاكمات العرابيين ومراقبتها

لو وصلت ثورة يناير إلى الحكم بعد إسقاط مبارك لما كان يحاكَم الآن على خلفية قضايا استغلال النفوذ

أصدر الخديو فى 19 سبتمبر 1882 مرسومًا بإلغاء الجيش المصرى بحجة أنه شايعَ العصاة

تفسر لنا العودة إلى سياقات محاكمة أحمد عرابى وصحبه فى نهاية 1882 كثيرا من الغموض الذى يكتنف جلّ المحاكمات التى جرت منذ قيام ثورة 25 يناير 2011 وحتى الآن؛ من محاكمات ضباط الشرطة إلى محاكمة مبارك وأركان نظامه وعصابته، وحتى تلك التى تجرى الآن لمحمد مرسى وعصابته. وتكشف لنا عن حقيقية المفارقات والصفقات المؤسفة التى تخفى فى ثناياها كثيرا من الأسرار وحتى الجرائم. فالمحاكمات السياسية ليست بأى حال من الأحوال هى جلّ ما يبدو منها على السطح، وليست كغيرها من المحاكمات التى تخضع لروح القانون أو حتى لمنطوقه الحرفى. لأن المحاكمات السياسية من محاكمات الثورة الفرنسية وحتى محاكمات نورمبرج الشهيرة عقب الحرب العالمية الثانية، أقرب إلى جبل الجليد العائم الذى لا يظهر منه على السطح غير الثُمن، بينما تظل سبعة أثمانه مطمورة تحت الماء فى زمن المحاكمات نفسها، ولا نعرف الحقيقة عنها إلا بعدما يكشف الزمن عن أسرارها وصفقاتها. لأن المحاكمات السياسية، وقد لحقتها صفة السياسة ومناوراتها تنأى عن ميزان العدل وحيدَته، وتنطوى على صفقات ومساومات تعكس ثقل الأوزان النسبية لكل العناصر الفاعلة فى الموقف السياسى وقتها.

فلو تصورنا أن ثورة 25 يناير قد وصلت إلى الحكم عقب نجاحها فى إسقاط مبارك، لما تمت محاكمة مبارك على حفنة من قضايا استغلال النفوذ، أو قتل المتظاهرين، ولا على استغلال ولديه لنفوذ أبيهما فى الاستيلاء على أرض الطيارين، وهى مجرد واحدة من آلاف الصفقات الأخرى المطمورة مع جبل الجليد، وإنما لجرَت محاكمته على ما ارتكبه فى حق مصر من جرائم سياسية واقتصادية واجتماعية، أدت إلى تدمير مكانتها بين الأمم، وإلى تدهور اقتصادها وتراجعه، وإلى تردى كل الخدمات الأساسية فيها من تعليمية وصحية وغيرها، وصولا إلى انسداد الأفق أمام شبابها فى مستقبل سليم، إلى حد مغامرة البعض منهم بإلقاء أنفسهم فى البحر، سعيا وراء سراب بلقع، بعدما عجز بلدهم عن أن يوفر لهم العيش والحرية والكرامة الإنسانية. ولأن الثورة لم تحكم بعد نجاحها فى إسقاط مبارك، كانت المحاكمة على قتل المتظاهرين، لا على أى من تلك الجرائم السياسية الكبرى، نتيجة لمجموعة التوازنات المختلة التى تركت الحكم بعد ثورة 25 يناير فى أيدى المجلس العسكرى، الذى يدين لمبارك وعصره الردىء بأكثر مما يدين به للثورة، والذى لا يؤمن بأى من شعاراتها. لأن المؤسسة التى يمثلها، وهى المؤسسة العسكرية، تدير فى أكثر التقديرات تواضعا ربع اقتصاد مصر، وهو أمر لم يكن لها شىء منه قبل زمن التردى والفساد الذى بدأ مع انتصار الهزيمة عقب الثغرة وعصر الانفتاح، وتكرس بمعاهدة كامب ديفيد الصهيوأمريكية ورفع راية العدو الصهيونى فى سماء القاهرة؛ أكبر عاصمة عربية.

وسوف تكشف لنا محاكمات الإسلامجية من محمد مرسى وعصابته عن طبيعة التوازنات الحقيقية الجديدة وراء كل ما يدور الآن بعد ثورة 30 يونيو، التى نجحت فى إسقاط من ركبوا زورًا ثورة 25 يناير، ولم يكونوا أبدا بين مفجريها، أو بين الذين مهدوا لها بوقفاتهم الاحتجاجية على مدى السنوات السابقة لها. لذلك فإن الغموض والخلل الذى يكتنف تلك المحاكمات، حيث ينتهى أكثرها بالبراءات المشبوهة التى تثير الاستهجان، وهى من البراءة بَرَاء، يجعلها أقرب إلى الصفقات التى تزكم روائحها الأنوف، ليس غريبا بأى حال من الأحوال عن المناخ الذى دارت فيه عقب هزيمة التل الكبير واحتلال مصر محاكمة أحمد عرابى وصحبه، فى مناخ من غياب الحقائق، تتجلى فيه سطوة من يفيدهم غيابها. فوسط غياب الحقائق تتفشى الأكاذيب والتكهنات، وتنشط عمليات تشويه بعض القوى لصالح أخرى. وبدلا من أن يحاكم الخونة من طراز الخديو توفيق وبطانته، ها هم الثوار الحقيقيون يحاكمون، وينفون خارج البلاد، وتتعرض سمعتهم فى زمن المحاكمة وبعده لعقود طويلة للتشويه، حتى تتم عمليات تبييض ساحة وسمعة كل من خان مصر، وشارك فى تسهيل عملية الاحتلال البريطانى لها. وتسويغ شرعية استمرارهم فى حكم مصر المنكوبة، بينما ثوارها يعانون فى المنافى البعيدة.

وقد كان هذا هو الحال فى تلك المحاكمات المهزلة التى دارت فى الأسابيع الأخيرة من عام 1882، وعكست طبيعتها ومسيرتها أوزان القوى السياسية وقتها، وحرص كل منها على أن تحقق أكبر فائدة من دورها فيها، وعلى أن تغيّب فى الوقت نفسه كثيرا من حقائقها التى يضرها انكشافها. فنحن هنا فى واقع الأمر بإزاء محاكمة تقع على مفترق طرق تجمعات وشرائح وقوى ومصالح متشابكة ومتصارعة معا، لمجموعة من الضباط الوطنيين الذين يعبرون عن آمال مجمل المصريين فى حكم أنفسهم بأنفسهم بعد أن خضعوا طويلا لحكم قوى خارجية تتالت على مصر لأزمنة طويلة. وكانت كل تلك القوى تدرك أن الثورة تعبر عن أغلب المصريين، وهذا هو سر خشيتها منها ومقاومتها لها. وكانت هناك شريحة أخرى من المصريين تحرم الخروج على الحاكم وعصيانه باسم الخلافة والإسلام واستمرار الأمر الواقع. «هل يذكرنا هذا بما جرى فى أثناء ثورة 25 يناير ممن حرموا الخروج على الحاكم من الإسلامجية ثم ركبوا الثورة بعدها»، بينما كانت هناك شريحة ثالثة ذات مصالح اقتصادية واجتماعية متعددة ومتشابكة مع الأجانب تخشى من توجهات عرابى الوطنية وانتشار الثقافة الاستقلالية التى يروجها على مصالحها فى مصر، فلم تؤيده حتى، بل رأت فى نفيه ورفاقه عقابا غير كاف. وكانت معها شريحة متنفذة من المتمصّرين من ذوى الأصول التركية والشركسية وغيرهم من الأجانب الأوروبيين منهم والمتأوْرِبين، كانوا ضد الثورة منذ اندلاع شرارتها الأولى، لأن مصالحهم كانت فى بقاء حكم الأتراك، وكان على رأسهم جميعا الخديو توفيق نفسه، الذى بيت النية على الانتقام من ضباطه، بعد أن فقد الثقة فيهم وفى ولائهم لعرشه منذ وقفة عابدين الشهيرة.

ومن يراجع ما فعله الخديو عقب انتصار الهزيمة، واحتلال بريطانيا لمصر، يدرك مدى تعطشه للانتقام من ثوار جيشه، واستخدام هزيمتهم لتوطيد أركان استبداده وخيانته. فقد وضعت حكومته يدها على جميع زعماء الثورة، ما عدا عبد الله النديم الذى اختفى فى صفوف الشعب. وامتلأت السجون بالثوار والضباط، والمثقفين والعلماء والموظفين والأعيان «راجع كتاب عبد الرحمن الرافعى، الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزى، لمعرفة القوائم الطويلة بأبرز الأسماء والأعداد». وأصدر الخديو فى 19 سبتمبر 1882 مرسوما بإلغاء الجيش المصرى بحجة أنه شايعَ العصاة، تمهيدا لمحاكمة كبار ضباطه. كما أصدر فى اليوم نفسه أمرا بتشكيل لجنة للتحقيق بالإسكندرية يُناط بها تقصى ما دار فيها من نهب وحرق منذ 11 يونيو برئاسة عبد الرحمن بك رشدى، وتقديم من تراهم للمحاكمة. كما شكل أخرى فى طنطا برئاسة محمود باشا الفلكى، لنفس الغرض. وأعقبه فى 28 سبتمبر بقرار بتشكيل «قومسيون»، أو ما نسميه الآن لجنة تقصى حقائق لها سلطة النيابة العامة، برئاسة إسماعيل أيوب باشا وعضوية عشرة باشوات آخرين لتحقيق تهمة كل من ارتكب جريمة العصيان أو التعدى على السلطة الخديوية أو إهانة الخديو، وأوكل له تقديم المتهمين إلى محكمة عسكرية. كما أصدر فى اليوم نفسه قرارا بتشكيل محكمة عسكرية برئاسة محمد رؤوف باشا وعضوية ثمانية باشوات من خصوم العرابيين لمحاكمتهم. وأمر بتشكيل محكمة عسكرية أخرى فى الإسكندرية برئاسة محمد نجيب باشا تختص بالحكم فى القضايا التى تقدمها لجنتا الإسكندرية وطنطا.

كان هذا هو ما دار على الجبهة الداخلية، وقد بدا أن أعداء مصر، وأعداء ثورتها قد انتصروا بدعم قوة بريطانيا لهم، كما انتصر أعداء ثورة يناير من الإسلامجية بدعم القوى الصهيوأمريكية لهم. لكن هذه كلها مجرد قوى داخلية لعبت أدوارا مهمة، أو مضمرة، ولكنها لم تكن بأى حال من الأحوال الأدوار الأساسية أو الحاسمة، وإن كان من مصلحة القوى الفاعلة والمؤثرة حقا، والتى تحرص كثيرا على أن لا تظهر على خشبة المسرح، أن يبدو الأمر وكأن هذه القوى الداخلية هى القوى الأساسية التى تقرر وتنفذ الدور الكبير والمهم. ألا يجعلنا هذا نهتف من جديد، ما أشبه الليلة بالبارحة!؟ أما القوى الخارجية التى كانت وقتها بريطانيا، وأصبحت الآن القوى الصهيوأمريكية بتراكبات مصالحها المعقدة، والمسلحة بالمال والعتاد، فهى التى لعبت الدور الرئيسى من خلف الستار. وقد رأينا كيف أرسى اللورد جرانفيل، وزير خارجية بريطانيا وقتها، والمكلف بملف احتلال مصر، ما عرف بعد ذلك باسم مبدأ جرانفيل، وعلى أكبر رأس فى الدولة وقتها وهو الخديو. وهو المبدأ الذى عبر عنه فى هذا المجال اللورد كرومر الذى جىء به على عجل من الهند، بسبب خبرته السابقة بمصر، ليكون المندوب السامى البريطانى فيها عقب الاحتلال، وبوضوح لا مواربة فيه فى كتابه حينما قال: «لو أن هذا الثائر عرابى تُرك وشأنه فى ثورته، لما كان هناك أدنى شك فى انتصاره، ولكن بما أن خذلانه يرجع أساسا إلى العمل البريطانى وضرب الإسكندرية، فإن من حق بريطانيا المطلق أن تقرر هى، دون غيرها، مصيره».

وكان هذا بالفعل ما قرره اللودر جرانفيل، وقبل مبدئه الشهير ذاك، حينما أرسل لممثله فى مصر، سير إدوار ماليت قنصل بريطانيا بها، برقية بتاريخ 28 أغسطس، فى أثناء احتدام المعارك على الجبهتين الغربية والشرقية، سلمها للخديو يشترط فيها أن لا يُعدم أحد من أسرى العرابيين إلا بعد موافقة الحكومة البريطانية، وهدده هو وحكومته إذا ما خالف هذا الأمر. ولم يفعل جرانفيل هذا حبا فى الثورة أو الثوار، فقد قرر أن مصلحة بريطانيا تكمن فى الإجهاز عليها، ولكن لأنه كان يواجه كل يوم فى مجلس العموم استجوابات أنصار الثورة العرابية فيه، كما بيّنّا، حول كل كبيرة وصغيرة. بل إن اللورد دوفرين سفير الحكومة البريطانية لدى الأستانة، والذى كان يتعرض هو الآخر لوابل من الانتقادات الأوروبية، أوصى بضرورة حسن معاملة قادة الثورة العرابية بعد القبض عليهم، حتى لا تستخدم الإساءة إليهم وقودا ضد حكومة جلالة الملكة التى كانت تتعرض للتجريح من مختلف الدوائر الأوروبية فيها، حينما كانت الأستانة من الحواضر المهمة والمؤثرة فى المشهد الدولى وقتها.

ولهذا كله أوفد مجلس العموم البريطانى نفسه السير تشارلز ويلسون ممثلا له لحضور محاكمات العرابيين ومراقبتها بنفسه كى ينقل للمجلس بدقة كل ما دار فيها من إجراءات. وقد شارك تشارلز ويلسون واللورد دوفرين فى تغيير قائمة الاتهامات التى كانت حكومة الخديو قد وجهتها لعرابى وصحبه وهى المسؤولية عن مذبحة الإسكندرية فى يونيو، ثم حرقها ونهبها فى شهر يوليو، وعصيانه للخديو. لأنه أمر بحذف التهمتين الأولى والثانية، والاكتفاء بمحاكمة عرابى على عصيانه للخديو. فإنجلترا التى خططت لمذبحة الإسكندرية كى تختلق لنفسها ذرائع التدخل واحتلال مصر تعرف بحق أن عرابى برىء من تلك التهمة، كما أن قذائف أسطولها الغاشمة هى التى حرقتها. كما أنها لم تكن تريد فتح هذا الملف كى لا يؤدى إلى كشف دورها المشين فيه. وكى يفتح الباب لفرنسا وحلفائها لزعزعة موقفها بها. فقد أعلن مسيو جان نينيه المستعرب السويسرى الذى عاصر أحداث الثورة فى مصر وكان بالإسكندرية عند قصف الأسطول البريطانى لها، أن قذائف الأسطول هى التى أحرقت المدينة، وقد أدلى فى نوفمبر 1882 بشهادته فى هذا الشأن: «إننى أعلن دون أدنى تردد أن عرابى لم يشع السلب والنهب والمذابح فى أرض مصر قط، وأن الأمة المصرية وأعيانها هم الذين عهدوا إليه بالدفاع عن شرف البلاد ومصيرها، ولم يكن عرابى السبب فى النهب أو فى قتل أى مصرى أو أجنبى. بل على النقيض من ذلك تماما، فقد عمل الرجل كل ما فى وسعه ليحمى حياة المصريين والأجانب وأملاكهم على السواء، وليعاقب جميع الذين خالفوا هذه التعليمات».

وفضلا عن هذا كله، كانت بريطانيا تعى، كما تقول كل وثائق خبرائها ودبلوماسييها، مدى شعبية عرابى وثورته، ولا تريد أن تتحمل وزر عقابه وما يتبعه من سخط شعبى عليها. بل كان يهمها أن تلصق هذا الوزر بالخديو وبطانته، كى يضعف هذا الأمر مركزه، فيزداد اعتماده عليها من ناحية، وكى يزعزع مكانة تركيا العثمانية فى مصر، بعدما أصدر سلطانها تحت ضغط الإنجليز فرمانه المشؤوم بعصيان عرابى من ناحية أخرى. وكل زعزعة لمكانة الدولة العثمانية تستفيد منها بريطانيا فى توطيد مكانتها فى المنطقة. وفضلا على ذلك كله كان الإنجليز، وقد انتهكوا «ميثاق النزاهة» الذى وقعوا عليه مع الدول الأوروبية الأخرى، لا يريدون محاكمة طويلة تنال من مكانتهم داخل المجتمع الدولى وداخل مصر معا، خصوصا أن عرابى وصحبه طالبوا بشهادة أكثر من 400 شاهد، بينما طالب الادعاء بشهادة 12 شاهدا، وهو الأمر الذى حرص دهاء الإنجليز السياسى على وأده فى مهده، واستبعاد كل الاتهامات التى تفتح الباب له. ألا يذكرنا هذا بقائمة الشهود الطويلة التى أعدها فريد الديب فى محاكمة مبارك بعد ثورة 25 يناير، وما جرى بشأنها من مساومات؟!

فقد كانت القوى السياسية المحافظة فى بريطانيا نفسها تخشى أن تتحول محاكمة أحمد عرابى وصحبه إلى محاكمة لبريطانيا وعدوانها دون وجه حق أو ذريعة قانونية على مصر، التى تنشد الاستقلال عن تركيا. بل إن اللورد دوفرين نفسه قدم قبل نهاية شهر سبتمبر المشؤوم وقبل أن يوطد الاحتلال أقدامه فى مصر، أول تأكيدات بريطانيا للأستانة باعتزامها الانسحاب من مصر فور أن يستتب الأمن بها. كانت هذه هى موازين القوى التى تحكمت فى مسار المحاكمة، وكان بلنت كما علمنا قد أنشأ صندوقا للدفاع عن عرابى تجاوزت تبرعات الإنجليز والأيرلنديين فيه أكثر منه خمسمئة جنيه إسترلينى، واختار محاميين إنجليزيين شهيرين للدفاع عنه هما برودلى Broadley ونابيه Napier. وبدأت المساومات من وراء الستار بين القوى الفاعلة «لتوضيب» المحاكمة قبل أن تنعقد أولى جلساتها برعاية كل من سير تشارلز ويلسون واللورد دوفرين. وفى 21 نوفمبر 1882 أبرق برودلى إلى بلنت قائلا: «أعطانا عرابى وثيقة مكتوبة يمنحنا فيها سلطة الاتفاق نيابة عنه مع دفرين، سفير بريطانيا فى الأستانة، الذى أوكل له تصريف الأمور. ودوفرين يقترح اعتبار عرابى مذنبا من حيث الثورة على الخديو فقط، والنزول عما عدا ذلك. أما الحكم فسيخفف إلى النفى فى مكان طيب تتفق عليه أنت مع وزارة الخارجية». «راجع بلنت، التاريخ السرى للاحتلال، ص 339» وقرر كرومر أن من مصلحة الجميع أن يعترف الزعماء بجريمتهم، وأن يصدر عليهم حكم بالإعدام، يخفف إلى النفى المؤبد. وأن يصدر بعد ذلك مرسوم بمصادرة أملاكهم، مع عدم المساس بأملاك زوجاتهم، وأن ترتب الحكومة لكل منهم معاشا يفى بحاجته، مع حرمانهم من رتبهم وألقابهم. وارتضى العرابيون هذا المصير. هكذا تم «توضيب» كل شىء قبل أن تعقد أى جلسة.

كانت إذن محاكمة سياسية وصورية معا، عرفت نتائجها قبل انعقادها، ولم تدم سوى يوم واحد، إذ انعقدت برئاسة محمد رؤوف باشا يوم 3 ديسمبر 1882، وجىء إليها بعرابى وصحبه، بعد أن كانوا قد وقع كل منهم على وثيقتين: أولاهما يقر فيها بعصيانه، ويتعهد فى الثانية بأن لا يبرح المكان الذى تقرره الحكومة الإنجليزية لمنفاه. ومع هذا رفض عرابى الاعتراف أمام المحكمة بالعصيان، وكان رده على التهمة التى وجهها له رؤوف باشا رئيس المحكمة: «أحمد عرابى باشا! أنت متهم أمام هذه المحكمة بناء على طلب لجنة التحقيق بجريمة العصيان ضد الجناب الخديوى، مخالفا المادتين 96 من القانون العسكرى العثمانى، و59 من قانون الجنايات العثمانى، فهل تقر بالتهمة أم لا؟»، وكان رد عرابى «إن محاميىّ سيجيبان بالنيابة عنى». فتلا برودلى بالفرنسية الورقة التى وقع عليها، وبعدها رفعت الجلسة على أن تنعقد فى الساعة الثالثة بعد ظهر اليوم نفسه. وفى الثالثة انعقدت لدقائق تُلى فيها الحكم بالإعدام، ثم تُلى الأمر الخديوى باستبداله بالنفى المؤبد واستغرق الأمر كله عشر دقائق، ثم رفعت الجلسة.

وحوكم زملاء عرابى الستة فى 7 و10 ديسمبر بنفس الطريقة المهزلة، وهو الأمر الذى لم يوافق عليه سابعهم وهو على باشا الروبى، ورفض أن يدافع عنه مستر برودلى كما رفض الإقرار الذى وقعه عرابى، وقد جنبه هذا الرفض مصير زملائه. وإن نفى عشرة أعوام فى مصوع. وفى 14 ديسمبر أصدر الخديوى أمرا بمصادرة أملاك الزعماء السبعة وأموالهم وحرمانهم من حق امتلاك أى شىء فى الديار المصرية، بطريق الإرث أو الهبة أو أى طريقة أخرى. وفى 21 ديسمبر صدر أمر خديوى آخر بتجريدهم من جميع الرتب والألقاب. وفى مساء 27 ديسمبر أعد لهم الإنجليز قطارا خاصا أقلهم من قشلاق قصر النيل، مكان ميدان التحرير الآن وهيلتون والجامعة العربية، حيث كانوا محتجزين إلى السويس، وغادر القطار القاهرة فى العاشرة مساء، ووصل السويس فى الثامنة صباحا. وكانوا قد أعدوا لهم باخرة هى «مريوط» لتقلّهم مع ذويهم. فأقلعت بهم ظهر 28 ديسمبر متوجهة إلى جزيرة سيلان، وهى المكان الذى وقع اختيار بلنت عليه، لأنها الجزيرة التى يقال إن آدم نزل إليها عقب طرده من الجنة. وكان وقْع الأمر على الزعماء، كما كان على أبينا آدم من قبلهم، هو وقع الطرد من الجنة، جنة مصر.

 

التعليقات