الكتاب كائن ضعيف، ليس إلا حبرًا على ورق، سهل التمزق، سريع الاشتعال، من السهل مصادرته ومحاصرته، ولكن العديد من الأنظمة العربية العتيدة ما زالت مصابة بعقدة «الكتابو فوبيا»، تخافه وتتحسب لصدوره، وفی أحيان كثيرة لا تتركه يعبر حدودها، وتطارد كتابه وقراءه على السواء، ولا شىء يتفوق على محارق الكتب التی أقيمت للكتب، لم نسمع عن إقامة محارق للأسلحة الفتاكة، أو المخدرات المدمرة.
وفی مصر كانت المرة الوحيدة التی قررت فيها جمارك الإسكندرية حرق كميات ضخمة من المخدرات المضبوطة، تسربت المخدرات بعيدا عن ألسنة اللهب ولم يحترق سوى بعض المقاعد القديمة. الكتب أضعف من أن تنجو من الاغتيال، لكن معجزتها الصغيرة أنها لا تُباد، وهذا هو سر الكائنات الضعيفة، الديناصورات الضخمة قد انقرضت، وبقيت «الأميبا» الضعيفة واستمرت، الأفكار التی تسكن صفحات الكتب لا تندثر، ولكنها تكتسب خفة الطيور التی لا تعوقها الحدود، فی مصر ورغم ثورة 25 يناير ما زالت أجهزة الرقابة، التی لا ندری ما هى. تقوم بمصادرة كتب تعتبر من كلاسيكيات النثر العربى، كتاب «النبى» لجبران خليل جبران، الذی صدر منذ 90 عاما وطبع عشرات الطبعات، قبل أن يستيقظ الرقيب المصری من سباته ليكتشف خطورته ويقيم الحجر عليه، ويكرر المهزلة نفسها مع كتاب «ألف ليلة وليلة» فی عناد غريب يعادی فيها رقيب عابر نصا خالدا قاوم قرون الزمن، ولكننا لا نكتفى بالرفض والمصادرة، ولكن نبالغ باتهامات الكفر والإلحاد وليس أقل من السعی لقتل أی كاتب شجاع.
ما زال الكتاب متهما، يجب إيقافه ومحاكمته وإعدامه. وأنياب الرقابة غائصة فی عمق التاريخ، وحرائق الكتب لا تخمد، فی رواية «451 فهرنهيت» يقدم المؤلف الأمريكی «برادبيرى» رؤيا كابوسية لمصير الكتاب فی المستقبل، تحت وطأة الأنظمة المتسلطة، تحكی الرواية عن مطافئ مهمتها حرق الكتب، و451 هی درجة الحرارة التی يحترق عندها الورق، وامتلاك أی كتاب مهما كان نوعه يعد جريمة يعاقب عليها القانون، ويضطر هواة الكتب لحفظها عن ظهر قلب، والهروب إلى الجبال ليرددوها لبعضهم البعض، وقد عشنا فی مصر طرفًا من هذا الكابوس، فعندما كانت العلاقة مع الاتحاد السوفييتی فی أفضل أوقاتها، كانت كتب الماركسية تباع علنًا، ولكن إذا تم ضبطها فی منزل أی شخص يصبح متهما، وتتحول الكتب إلى دليل ضده، ما زال رجال الأمن حتى الآن يعملون بعيدا عن أی منطق، ومنطق المصادرة والحرق ليس شيئا من التخيلات، ولكنه حكم السلطة فی مواجهة كتاب، حكام الأندلس أقاموا المحارق لمخطوطات ابن رشد، وهتلر قام بإحراق كتب الليبراليين والديمقراطيين الذين لا يؤيدون نظريته فی تفوق الجنس الآرى. والقذافی أحرق كل أنواع الكتب دون تمييز. جميعهم استقوا طقوس الحرق من الحضارة الرومانية القديمة، كما يقول المؤرخ الإيطالی ماريو إنفليزى، الواقعة الأولى فی التاريخ حدثت فی عهد الإمبراطور تيباريوس عندما وجهت تهمة المروق والخروج عن الدولة للمواطن كريموسيوس كوردو، كان قد نشر كتابا ينتقد فيه ضياع قيم وفضائل الجمهورية الرومانية مع مصرع يوليوس قيصر، الذی كان يعتبره آخر المواطنين الرومانيين الحقيقيين، بعدها سقطت كل القيم ولم يعد هناك رجال، وتمت محاكمة الكاتب أمام مجلس الشيوخ، وذهب دفاعه عن حرية الرأی سدى، فقد أصر الشيوخ المبجلون على إحراق مؤلفاته فی ميدان روما، من هذه اللحظة التاريخية اعتبر الكتاب إحدى أدوات المعارضة، وتأكد ذلك بعد مئات السنين عندما اخترعت الطباعة، فقد استفاد منها المذهب البروتستانی الآخذ فی الانتشار، اعتبروها هدية من السماء لمساعدتهم على نشر رسائل مارتن لوثر فی أوروبا، واعتبرتها الكنيسة الكاثوليكية شرًّا مطلقا، فهی لا تقوم إلا بنقل أفكار الإلحاد والهرطقة. المهم أن الكتاب اكتسب صفة «المعارض» وأصبح عدوًّا رسميا لكل قوى القمع والتخلف.
فی القرن السابع عشر وجّه الشاعر الإنجليزی جون ميلتون، صاحب قصيدة «الفردوس المفقود» خطابا للبرلمان البريطانى، أصبح فى ما بعد واحدا من أهم وثائق حرية الكلمة، يقول فيه: «القضاء على كتاب جيد يعادل تقريبا قتل إنسان، بل هو أسوأ من ذلك، لأن من يقتل رجلا يقتل كائنا مفكرا صوره الله، ولكن من يقتل كتابا جيدا يقتل الفكر ذاته، يقضی على جوهر الصورة الإلهية»، كان ميلتون عائدا من رحلته لإيطاليا، زار جاليليو العجوز داخل سجنه بعد أن تمت مصادرة كتابه الذی يقول فيه إن الأرض ليست مركز الكون وإنها مجرد كوكب معتم يدور حول الشمس، شاهد فظائع محاكم التفتيش، ونضال المثقفين فی صراعهم ضد قوائم الكتب المصادرة، وكان يريد أن تنضم إنجلترا لركب الحرية، ولم يتم ذلك إلا بعد أن قامت الثورة الفرنسية وأسقطت كل الموانع الكنسية.
وقد ظل الكتاب مطاردًا إلى عهد قريب، إن لم يكن من أجهزة الدولة، فمن الناس الذين تصدمهم الأفكار الجديدة، ولا يجدون من وسيلة إلا المنع والتحريض.. طوبى لك أيها الصديق نصر أبوزيد، لكل العذابات التی تعرضت لها، لرحلة المنفى التی دامت 15 عاما حتى لا تخضع لابتزازاتهم وتعيش تحت تهديدهم، لقد كنت واحدا من موكب طويل من أصحاب الأفكار الجريئة والمجددة، والذين حاولوا أن يرفعوا سقف الفكر فی بلد يسير دائما محنی الرأس تحت وطأة الأفكار العتيقة التی تثقل كاهله.
الاختلاف الفكری فی مصر لا يتوقف عند حد، مصادرة الكتاب لا تكفى، ولكن تتبعها على الفور فتاوى التكفير وإهدار الدم، وهذا هو المصير الذی كان ينتظر الدكتور أبو زيد، فقد استغل خصومه قانون «الحسبة» فی إقامة دعوى ضده لفصله عن زوجته، لأنه لا يجوز لمسلمة أن تتزوج كافرًا ملحدًا، وفی سقطة شهيرة من سقطات القضاء المصری حكم القاضی بذلك. لم يشأ الصديق أبو زيد أن يخضع لهذا الحكم الجائر، ليس لأسباب إنسانية وحميمية فقط، ولكن لأن هذا اعتراف بجريمة الإلحاد الموجهة إليه، لذا اتخذ قرار الرحيل طويلا عن الوطن، عمل أستاذا فی جامعة «أوتراخت» فی هولندا، ولكن الحنين سكن فی جسده كفيروس قاتل، عاد به إلى الوطن للحظات قصيرة ما لبث أن مات بعدها، فطوبى له.
لم يرحمنا دستور الثورة الجديد من مساوئ قانون الحسبة، كان هو أيضا مصابا بمرض «الكتابو فوبيا»، لم يستطع الوقوف أمام رغبات الحنق التی تدفع بعض الأفراد الذی يهوون رفع الدعاوی القضائية ضد أی عمل أدبی أو فنی لم يعجبهم، حتى لو لم تكن لهم بهم صلة أو يسبب لهم ضررًا.
لقد حد الدستور الحد قليلا من انفعالاتهم وتحيزاتهم، لم يتركهم يقيمون الدعوى بشكل مباشر، ولكنه جعلها عن طريق النيابة العامة، أی أن سيف التقاضی والعقاب ما زال قائما على رقاب الفكر، لم يدع الفرصة لمقارعته بالفكر، ولا بتأليف كتاب مضاد، على الحكام العتاة، وعلى أجهزة الرقابة العمياء أن تعرف أن الكتاب ليس عدوًّا، ولكنه على ضعفه مصدر مهم للمعرفة والتثقيف، ويجب أن يعامل بالاحترام اللائق، وليس بذلك العنف البدائی الذی يلقاه فی عالمنا العربى.