قبل أكثر من عام شاهدتُ هذه الفرقة فى سهرة مماثلة، وكان السؤال الذى ردده الناس بعد العرض هل نلتقى مرة أخرى الأسبوع القادم؟ كان مرسى يعتلى الكرسى هو وجماعته، وشعر الناس بأن الأوبرا مستهدفة من هذا التيار ومهددة بالفناء، بسبب فصيل يكره الفن، ولا يكتفى فقط بتجريمه بل يحرمه، خصوصًا فن الأوبرا، الذى هو فى عرفهم عنوان العرى ومن يقبل عليه «الناس الرايقة اللى بتضحك على طول»، كانت لدىّ ثقة أن مصر لا يمكن أن يقهرها أحد، وفى أثناء ثورة المثقفين فى مكتب وزير الثقافة السابق بـ«شجرة الدُر» كان من بين أسلحة المقاومة فن الأوبرا، وعرض لأول مرة فى الشارع أوبرا «زوربا».
سحر الشرق والغرب عشتُ معه مجددًا قبل 36 ساعة فى المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية، حيث كان العناق الموسيقى من خلال فرقة «أوركسترا ميونخ للإيقاع والوتريات» بقيادة المايسترو عادل شلبى، التى تأسست قبل ربع قرن، وتخصصت فى المزج بين الجمال الفنى شرقًا وغربًا، تقفز فوق حدود الجغرافيا وقيود الزمن. وهكذا تجد موسيقى «باخ» مع إبداعات عمر خيرت، الاثنان فى حفل واحد، كانت هناك إطلالة خاصة لعازفة الفلوت إيناس عبد الدايم، التى تسبقها ابتسامة تصالح كل الدنيا، وهى تخلع زى المدير، لنرى الفنانة المبدعة، ولنكتشف أننا قد غادرنا مقاعدنا لنحلق معها فوق السحاب.
الأداء الحركى لهذه الفرقة واحد من الملامح المميزة للفرقة بحالة من التلقائية، الكل يحتفظ بطبيعته حتى تغيير موقع الآلات من مكان إلى آخر يتولاه بعض أفراد الفرقة، وليس أحد العمال كما تعودنا فى كل العروض السابقة، آلة «المارمبا» هى البطل الرئيسى، وعدد من عازفى الإيقاع يغادرون مواقعهم مؤقتا، ويتوجهون إلى المارمبا، التى تتسلل بروح طفولية إلينا، فهى تذكرنا بآلة الساكسفون التى كان جيلنا يجدها في حصة الموسيقى مع الأكورديون والطبلة والرق، هل لا تزال فى المدارس ساكسفون.. بل إن السؤال هل لا تزال حصة الموسيقى؟
شاهدت فى الحفل الموسيقار عمر خيرت، حيث كانت موسيقاه هى المعبرة عن الجانب الشرقى فى هذا العرض، روح مغايرة وإحساس بالنشوة تحققه فرقة عمر خيرت كثيرًا ما تعزف موسيقاه فى المسرح المكشوف ويتابعه الآلاف، لكننا هذه المرة داخل المسرح نعيش صياغة موسيقية مختلفة بسحر خاص، موسيقى عمر خيرت حالة متفردة بين كل موسيقيى جيله، إنه عنوان الندرة والألق، يشعرنى رغم المذاق لموسيقى الواحد، الذى يغلف ألحانه كلها أنه فى نفس اللحظة يقفز إلى آفاق أبعد، ويحمل مغامرة فى كل مرة، يقدم فيها موسيقى تصويرية أو تتر أو أغنية مثل «فيها حاجة حلوة» لريهام عبد الحكيم أو قبلها «الورد البلدى» للطيفة أو «عارفة» للحجار، ينطلق بالصوت إلى مساحات من الاكتشافات غير المأهولة.
هل رأيتم «الدوزنة» إنها اللحظات التى تسبق العزف، حيث يتم ضبط النغمة بين أفراد الفرقة، تلك اللمحات التى تتم فى الكواليس بعيدًا عن عيون وآذان الجمهور، شاهدتها، واستمعت إليها، وكأنها جزء حميم من الحالة الإبداعية فى تقديم العرض، مثلًا عازفا البيانو أمام الجمهور زيجفريد مازور وبيرند ريدمان أو إيناس عبد الدايم قبل أن تُقدم الدويتو مع عازفا البونجز تياس لا خنماير مقطوعة فيتوريو مونتى «تشارداس» يضبطان الآلات، وكان عازف الماريمبا كريستيان بينينج يمنح العرض قدرًا من الحضور الشخصى، فهو لا يعزف فقط بقدر ما يشع حيوية وخفة ظل ينتقل إلى جنبات المسرح.
ويبقى سحر العزف الشرقى الذى تجسد فى عازف الكمان «الفيولينه» سعد محمد حسن أتصوره مع عدد محدود جدا من فرقة أم كلثوم الموسيقية، الذين لا يزالون بيننا شهود إثبات على هذا الزمن، التقيت به قبل 14 عامًا فى رحلة على الطائرة لأحد المهرجانات الغنائية بالدوحة، وحكى لى أنه كان فى الصف الثانى كعازف كمان فى فرقة أم كلثوم، حيث كان فى الصف الأول الكبار أمثال أحمد الحفناوى وعبد المنعم الحريرى وعز الدين حسنى، وكان يحصل فى البروفة على خمسة جنيهات، وارتفع بعد انتقاله إلى الصف الأول إلى عشرة. هذا الفنان يبدو لى وكأنه صار هو النغمة، الذى نستمع إليه ليس صوت لقاء القوس والأوتار، لكنه الوجدان عندما يعزف!