لأسباب راجعة إلى رداءة الأداء العام والارتباك فى إدارة المرحلة الانتقالية وتشتت المصريين نخبًا وأفرادًا بين مصالحهم الخاصة ومصلحة الوطن: ارتفع سؤال قاسٍ إلى صدارة حياة الناس: متى ينتهى هذا العنف المحيط بنا كل يوم تقريبا؟!
سؤال لا يمكن أن تتجنبه فى أى حوار خاص أو عام، فهذا العنف قد أنهك مصر كثيرًا، وما زال يستنزف طاقاتها وقدراتها، وتمارسه جماعة الإخوان عامدةً متعمدةً لهدم أركان الدولة وعقاب المصريين عقابًا صارمًا على خروجهم فى ٣٠ يونيو على سلطان الجماعة وحكمها، بل إنها تهدد بالزحف على الميادين يوم الاستفتاء على الدستور وحصار المقرات الانتخابية، والبعض توعد بأن يحيل مباريات الدورى العام المزمع انطلاقه بعد أيام إلى ساحات للمعارك، حتى لا تبدو «البلد» مستقرة أمام العالم.. فإلى متى سنظل فى هذه الدوامة الجهنمية؟
تشتط بعض الآراء الوطنية وتستنهض الدولة باستخدام القوة كاملة لردع الجماعة عن مقصدها الخبيث، وأن الحل الأمنى هو السبيل الوحيد أمامنا فى هذه الفترة الحرجة لوأد عنف الجماعة وزجرها عند حدود دنيا من الأفعال المعادية.
وهذا كلام له منطق ووجاهة، خصوصًا وهى تستشهد بما صنعه جمال عبد الناصر معها فى ١٩٥٤، ثم ١٩٦٥، فجنب مصر اضطربات وفوضى وعنفًا كان يمكن للجماعة أن تفتعلها فى صراعها على السلطة فى ذلك الزمان، والأهم أن تاريخ الجماعة يكاد يخلو من الحس الوطنى إلا قليلًا، ومصر بالنسبة لها مجرد نقطة ارتكاز وانطلاق إلى الخلافة ومنها إلى أستاذية العالم كما دعا مؤسسها حسن البنا، وبالتالى لن تتوقف عن العنف دون درع يجعل خسائرها باهظة، وبدلا من أن تُنْهِك هى الدولة المصرية، تبدد الدولة قوة الجماعة وتستنزف طاقاتها وقياداتها حتى الإنهاك التام.
كما قلت هذا كلام له منطق ووجاهة، لكن الزمن غير الزمن والظرف غير الظرف، وإن كان الردع بالقانون هو واحب وفرض عين على السلطة للحفاظ على أركان الدولة من التفكك، وقد بدأت تصاب فعلًا.
لكن استخدام القوة دون القانون مخاطره أكبره، لأننا نؤسس دولة قانون عصرية وديمقراطية، وحتى لا تتوحش القوة وتتوسع، وللأسف نحن لا نصون أنفسنا بالقانون كما يتيح لنا القانون، فلا يوجد قانون يسمح بقطع الطرق وتعطيل الدراسة أو يفرض حماية لأحداث العنف داخل الجامعات بزعم أن لها «حرم» فوق القانون، أو يحول المدن الجامعية إلى ساحات للشغب.
لكن ضعف الأداء الحكومى ومصالح خاصة لأطراف داخل مجلس الوزراء يجعلان الوضع مرتبكًا ومشوهًا..
المهم أن استمرار عنف جماعة الإخوان مرتبط بأربعة عناصر:
١- الأسباب والدوافع، وكلها مرتبطة بالصراع على السلطة والعودة إليها، أو على الأقل إلى صدارة المشهد السياسي مؤقتًا..
٢- التمويل.. وفيه طوفان من الأموال المتدفقة داخليًّا وخارجيًّا..
٣-البيئة المغذية.. بما فيها من أطفال شوارع وعشوائيات وبطالة، مع دوام مشكلات الحياة اليومية للناس دون حلول أو تخفيف، وسوء التوقيت فى إصدار قرارات أو قوانين.. إلخ.
٤- مقاومة العنف الإخوانى.. سواء بقوة القانون ضد الخارجين عليه بقطع الطرق وتعطيل الحياة العامة، أو بعدالة ناجزة ضد الذين حرضوا على العنف وما زالوا يحرضون عليه، وأتصور أن الأداء باهت للغاية على الجانبين، وحين انتصب واقفًا كان فى قضية ضد بنات من الجماعة بالإسكندرية، صدر ضدهن أحكام عاجلة فى حدها الأقصى، أثارت جدلًا واستياءً وتساؤلًا عن هذه القضية العجيبة التى صدر فيها حكم فى أسابيع قليلة دون غيرها من القضايا، صحيح هى جنحة، ولم تكن جناية، والأحكام فى قضايا الجنح أسرع عشرات المرات من قضايا الجنايات، لكن فى ظل الأوضاع المقلوبة، والاضطرابات تتحول البديهيات إلى مسائل فكرية يتوه عقل المجتمع فى نقاشات غبية طويلة حولها.
المهم الآن: كيف نتعامل (دولة ومجتمع) مع العناصر الأربعة لمحاصرة العنف الإخوانى فى دائرة ضيقة؟
قطعًا لا وسيلة لنا مع أسباب العنف الإخوانى ودوافعه، ولا مصالحة فيها، لأن التناقض حاد وجذرى، وهم لا يتسامحون مع فكرة نزولهم عن السلطة، ويبدو أنهم مستعدون للقتال من أجلها لآخر نفس، لكن قطعًا نستطيع أن نتعقب التمويل ونجفف منابعه، وإذا لم نفعل فنحن أمام أمران لا ثلاث لهما، إما أن الدولة مخترقة والطابور الخامس الخفى الذى يعمل من أجل الجماعة متغلغل وقوى، وإما أن هذه الحكومة عاجزة تمامًا واستمرارها خطر على استقرار مصر.
ووقف التمويل مع الردع بالقانون هما السبيل العاجل إلى تقليص مساحة العنف، أما البيئة المغذية وحل مشكلات الناس فهذا طريق يلزمه بعض الوقت، لم يعد لدينا وقت.