من الغريب والمريب أيضًا أن بيرم التونسى أصدق وأعمق من أمسك بالروح المصرية فى أزجاله وأشعاره وأغانيه لم يحصل على الجنسية إلا وهو فى الستين من عمره، منحها له الرئيس جمال عبد الناصر فى نهاية الخمسينيات، وهو ما تكرر مع محمد خان بعد أن بلغ السبعين، رغم أنه واحد من أصدق وأعمق من قدموا على الشاشة الروح المصرية، أفلامه هى مرآة ترى فيها خلاصة مصر مثلما كانت كلمات بيرم هى خلاصة مصر.
على مدى أربعين عامًا كنا نكتب ويكتب ونطالب ويطالب ونسأل ويسأل حتى منحها له الرئيس عدلى منصور.
كثير من الفنانين حملوا الجنسية المصرية من لبنان رغم أن المشاعر واللهجة والإبداع ليست مصرية خالصة مثل سليم سحاب ووديع الصافى وليس لدىّ أدنى اعتراض ولا حساسية على أن تمنح الدولة الجنسية لفنان عربى يطلبها ويستحقها وسليم والراحل وديع لا شك يستحقان الجنسية، لكن كانت بالنسبة لى علامة استفهام كبيرة أن خان يتم تجاهل منحه جواز السفر والهوية المصرية؟
خان التقى حسنى مبارك فى أثناء تكريمه لصناع فيلم «أيام السادات» قبل نحو 12 عامًا ومنحه وسام الجمهورية من الطبقة الأولى، وهو ما يحصل عليه فقط المصريون، المؤكد أن حوارًا جانبيًّا دار بين خان وزكريا عزمى بخصوص الجنسية، والمؤكد أنه وعده بتوصيل الطلب إلى الرئيس، ولم يحدث شىء. وقبل هذا التاريخ بعشر سنوات أيضًا كان الرئيس الأسبق على علم عن طريق أسامة الباز الرجل الأقرب للرئيس فى تلك السنوات مطلع التسعينيات، وكان خان قد أخرج لنبيلة عبيد فيلم «الغرقانة» الزوجة السابقة لأسامة، أعلم أن التجربة لم ترض نبيلة، خصوصًا أن خان يخرج فيلمًا لمحمد خان، وليس مخرجًا حسب المواصفات التى تطلبها نبيلة، كما أنه لأول مرة تجرأ وحذف من «التترات» لقبها الأثير وقتها «نجمة مصر الأولى»، فعلها قبل أن يُقدم عليها يوسف شاهين فى فيلم «الآخر» بثمانى سنوات، لكن لا أتصور أن لهذا سببًا فى تأجيل منحه الجنسية، المؤكد أن مبارك لم يستشعر أى أهمية.
خان ولد فى عهد فاروق ومر عليه الرؤساء محمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسنى مبارك ومحمد مرسى وعدلى منصور، وبالطبع القسط الوافر من المسؤولية يتحمله حسنى مبارك، واللقاء الذى أتصوره يتيمًا بينهما أثناء تكريم خان حكى لى أن مبارك أمسك بيده، وطلب منه أن يأكل، وقال له بعد أن أشاد بالفيلم إنه فى البداية تصوّر أنه سوف ينام فى أثناء المشاهدة، وتعجب خان أن مقياس النوم هو ترمومتر مبارك فى الحكم على العمل الفنى، وليس هذا بغريب فى الحقيقة، فلم يُعرف عن مبارك أى اهتمام بالموسيقى أو الغناء أو السينما على عكس كل من جمال عبد الناصر وأنور السادات، بل إننى أتصور وهذا مجرد تحليل أنه لم يكن ينوى سوى تكريم أحمد زكى على اعتبار أنه يقلد أنور السادات، وأن الشىء الوحيد الذى استوقف مبارك فى الفيلم أنه عاش واقترب كثيرًا من السادات، وفوجئ بأن أحمد زكى يُمسك بتفاصيل عديدة ذكرته به فقرر تكريمه، لكن الدائرة القريبة من مبارك هى التى قالت له إن للفيلم مخرجًا اسمه محمد خان، وكاتب الراحل أحمد بهجت وأبطالًا آخرين مثل ميرفت أمين ومنى زكى وأحمد السقا، فمنحهم التكريم. ما السر وراء تجاهل منحه الجنسية كل هذه السنوات، هل جهة سيادية فى الدولة لديها تحفظ؟ لا أتصور، خان لا يعتبر فنانًا مشاغبًا بمقياس الأجهزة، صحيح أنه اشترك فى إضراب الفنانين فى نهاية الثمانينيات، وكان موجهًا ضد القانون 103، شارك أيضًا خان فى ثورة 25 يناير، كان من أوائل من نزلوا إلى ميدان التحرير، وبعدها لم يترك مسيرة للدفاع عن الحرية إلا وكان على رأسها رغم ما صار يعانيه فى الآونة الأخيرة من متاعب فى الركبة، لكنى كثيرًا ما شاهدته سائرًا على قدميه متحديًّا آلام ركبتيه من دار الأوبرا إلى مجلس الشعب.
الجنسية لمحمد خان تبدو شيئًا مضحكًا، فلا أحد من الممكن أن يتصور أن مخرجنا الكبير بحاجة إلى جواز سفر أخضر يقول «أنا المصرى كريم العنصرين».