مقال كبير من حيث الحجم -ومن حيث القيمة- يناقش فيه عمنا وكاتبنا صلاح عيسى، الفخ الذى وقع فيه الشيخ عبد الرازق والشيخ خالد محمد خالد.. فى ما يخص الخلافة. وهذا المقال نشر عمنا عيسى فى مجلة الدوحة عدد يوليو 1981 ثم ضمه إلى كتابه الجبار «مثقفون وعسكر». وفى أثناء قراءتى هذا المقال -الذى يناقش قضية مثارة الآن بشدة، هى قضية «الخلافة» أتت على رأسى أنا الغلبان «فكرة»، هى: لماذا لا تخصص جريدتنا «القاهرة» صفحة كاملة تعيد من خلالها نشر مواد ثقافية ذات قيمة وأعمال أدبية مهمة، حُرم منها قارئ تلك الأيام.
فمثلًا دراسة المؤرِّخ صلاح عيسى المشار إليها آنفا.. كانت هى نفسها فكرة الندوة التى عُقدت بالمجلس الأعلى للثقافة وكان عنوانها هو «الدين والسياسة بمصر على مر العصور»، ومن عنوان الندوة يحيلنا على الفور إلى لحظة وفاة أشرف خلق الله وتنازُع الصحابة على من يتولى إدارة شؤون المسلمين، فريق يرى أنه أحق بتلك المهمة لأنه ناصر الإسلام ورسوله، وكان له عونًا عندما حارب الناس الرسول والإسلام.. وكان حاميًا للرسول عندما يهاجمه كل الناس. وفريق يرى أنه من قريش ورسول الإسلام من قريش وهو الذى تحمل كل شىء لنصرة الإسلام ورسول الإسلام ومن ثم فهو أحق بتولى تلك المسؤولية.
وحدث نقاش وحوار بين الأنصار والمهاجرين ورضى الأنصار بما أورده المهاجرون وتركوا السياسة وتفرغوا للدين والدنيا.. ففازوا بالدنيا والآخرة. بعكس ما حدث مع الفريق الذى تولى إدارة شؤون المسلمين، إذ جرت دماء المسلمين أنهارا. وتسفر محنة المسلمين فى الفتنة الكبرى عن شىء مهم.. لكن أحدًا لم يعلمه، هو أنه تم الفصل بين السلطتين الدينية والسياسية، أى لم يعُد يجوز لأحد أن يتولى الاثنتين معا وإنما واحد للسياسة واحد للدين، والاثنان يصبان فى مصلحة الوطن والمواطن، ولا شىء غيرهما.
بمعنى أن السياسة وُجدت من أجل الفرد، وكذلك الدين من أجل الفرد، ووُجد الفرد من أجل الوطن، أى يجب أن يخدم الثلاث «الفرد والسياسة والدين» على الوطن، فإن وُجد وطن قوى وُجد مواطن قوى.. وإن وجد مواطن قوى وُجد معتقَد قوى. ولأن المعتقَد يستمدّ قوته من معتنقيه، إلا الإسلام لأنه قوىّ فى ذاته ولا يريد خدمة من أى أحد.. فقط اجعله عونًا لك فى حياتك هنا، أى استفِد من الإسلام استفادة كاملة.. فإن حدث ذلك وكنت المسلم كما ينبغى أن يكون المسلم... هنا وهنا فقط سوف نجد الإسلام فى كل أنحاء العالم... يحدث هذا لأنه لا يوجد عائق أمام انتشار الإسلام. أما ما يحدث الآن فهو أكبر عائق أمام الإسلام فى تقدمه إلى الأمام.. لأننا لسنا النموذج السليم.. فنحن فى آخر طابور التقدم الحياتى بكل جوانبه، فنحن لو عملنا على أن نكون أصحاب علم، ومن خلاله نكون فى أول الطابور، لجرت البشرية كلها وراءنا، لكننا ارتكنَّا إلى الحل السهل فى ممارسة الإسلام السهل.. الإسلام المريح.. أعنى الإسلام النظرى.. إسلام العبادات.. وتركنا إسلام المعاملات جانبًا.
ولم نحاول أن نكون جادِّين فى حياتنا بأن نوجد نتيجة الصلاة فى معاملتنا لأن الفعل إن لم يكن ذا نتيجة فهو بلا معنى.. فما يحدث فى المجتمع لا يدل على أنه مجتمع إسلامى من أى ناحية لأن الناس تذهب إلى الصلاة لكن أين هى نتيجة الصلاة والناس كلها تصوم لكن لا توجد نتيجة للصوم وكذلك الزكاة والحج، إنها كارثة أن نفعل الشىء ونقيضه.. فالعمل بالربا يجرى على قدم وساق ولا أحد يهتمّ أو يغضب لكل ما يحدث فى المجتمع.. يحدث من باب التحايل.. فالكل يتحايل من أجل مصلحته هو فقط، وإن كانت تلك المصلحة تتعارض مع الوطن وما يتعارض مع الوطن يتعارض مع الدين.
كان هذا هو عنوان الندوة التى عُقدت بالمجلس الأعلى للثقافة، وهذا العنوان يعود بنا إلى معاوية بن ابى سفيان عندما أراد أخذ البيعة لابنه يزيد فخرج عليه رجل وقال له: أبايع وأنا كاره للبيعة؟ فردّ عليه معاوية: بايع يا رجل فإن الله يقول: «فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرا كَثِيرا» [النساء: 19]. إن تحرُّش السياسة بالدين شىء خطير للغاية، وقد وصف الشيخ الغزالى تسييس الدين بأنه أخطر على العقيدة من الإلحاد.. بالطبع الشيخ الغزالى لم يقُل هذا إلا بعد تخيل ما جرَّته السياسة على المجتمع عندما تحرشت بالدين فى الفتنة الكبرى وما أنتجته من دماء.. وقد أنتجت تلك المحنة التى قصمت ظهر المسلمين إلى الآن والتى كانت بسبب الحكم.. فأصبح لدينا خلفه سيدنا علىّ، وفى نفس اللحظة خلفه معاوية بن أبى سفيان ثم الخلافة الأموية فى دمشق وخلافة عبد الله بن الزبير فى مكة.. والخلافة العباسية فى بغداد والأموية فى الأندلس والفاطمية فى مصر.. وقد نتج عن ذلك أن السلطة السياسة والدين لا يجتمعان على كرسى الحكم.. إلا وتراق الدماء.
حسين عبد العزيز