لم يكن ممكنا أن يقبل الإخوة الأقباط ما رفضوه قبل ما يقرب من قرن من الزمان.. حين كان يتم وضع دستور 1923 كان أقباط مصر هم من رفضوا أن يكون لهم «كوتة» خاصة فى البرلمان. قالوا بصريح العبارة إنهم ليسوا أقلية، وإنهم جزء من نسيج واحد يضم كل المصريين.
فى مناقشات لجنة الخمسين لمشروع الدستور الجديد، أثير الموضوع مرة أخرى. منهم لله من جعلوا هذا الأمر ممكنا. فى أيام الثورة الأولى فى يناير 2011 كان المشهد معبرا عن عبقرية هذا الشعب العظيم حين يتوحد فى لحظات المصير، هكذا رأينا الإخوة الأقباط يصبون ماء الوضوء لإخوتهم المسلمين، ورأينا المسلمين يحرسون إخوتهم الأقباط وهم يؤدون صلواتهم، ورأينا الجميع يؤدون صلاة الجماعة فى حب الوطن الواحد.
كنا نظن أننا نكتب نهاية أربعين عاما من مناخ الفتنة منذ ارتكب السادات خطيئته الكبرى بالتحالف مع إرهاب يتاجر بالدين ليتخلص من خصومه السياسيين، فكانت النتيجة أن اغتاله الإرهاب الذى لا يعترف بحلف ولا يحفظ عهدا، ثم ليحاول هذا الإرهاب بعد ذلك اغتيال الوطن بأكمله.
نعرف جيدا ماذا حدث بعد ذلك، وكيف تم التآمر لحصار الثورة، وكيف استولى الإخوان بدعم أمريكا على الحكم، وكيف فتحوا كل الأبواب أمام عصابات الإرهاب وأفكار التطرف ودعاة الفتنة على أمل تحويل مصر إلى صومال أخرى. ثم كيف تصدى الشعب لكل ذلك وأسقط الحكم الفاشى واستعاد الثورة فى 30 يونيو، واستعاد أيضا وحدته المقدسة فى مواجهة الخطر وفى الحفاظ على مصر وطنا لكل أبنائها.
فى الطريق إلى 30 يونيو كان الموقف الذى لا ينسى من البابا تواضروس، حين لقن السفيرة الأمريكية درسا فى انتماء المصريين جميعا لوطنهم، وهو يرفض بحسم طلبها المشبوه والمتآمر بأن لا يشارك أقباط مصر فى الخروج العظيم لإسقاط الحكم الفاشى فى 30 يونيو، مؤكدا أن الأقباط جزء أصيل من نسيج الأمة، وأنهم أحرار فى اتخاذ ما يرونه لإنقاذ الوطن مع إخوتهم المسلمين.
بعد 30 يونيو، كان الوعى كاملا بحجم التآمر على مصر وثورتها. وحين بدأ مسلسل الاعتداء على الكنائس وحرقها وسط صمت مريب من أمريكا والغرب، كان البابا تواضروس يتحدث بصوت المصريين جميعا وهو يؤكد الاستعداد لافتداء مصر بكل غال ورخيص. وحين بلغ انحطاط الإرهاب غايته بالاعتداء الآثم على كنيسة العذراء بالوراق، كان كل مصرى يدرك أنه المستهدف، وكان قلب مصر يخفق بالحزن والغضب والإصرار على الثأر لدماء الأبرياء من ضحايا إرهاب الإخوان وحلفائهم.
أمر مؤسف أن يعود الحديث عن «الكوتة» بعد ثورتين توحدت فيهما مصر لتسقط الاستبداد والفاشية وتؤكد مدنية الدولة والمساواة بين كل المواطنين. مجرد الحديث عن «الكوتة» يعنى أن هناك خللا لا بد أن نواجهه بشجاعة.
من ناحية أخرى فإن الموقف العام للإخوة الأقباط وتأكيد الكنيسة رفض «الكوتة» وتمسكها بالمبدأ الذى يجسد وحدة المصريين جميعا، وبأن مصر ليست فيها أقليات بالمعنى المتدارج عليه، بل إن أقباط مصر هم جزء من نسيج وطنى واحد يضمهم إلى جانب إخوتهم فى الوطن من المسلمين. هذا الموقف المبدئى يلقى بالمسؤولية علينا جميعا، ويطرح السؤال الذى لا ينبغى التهرب من الإجابة عنه: هل نحن مع مصر التى توحدت فى ميادين التحرير فى ثورة يناير، ثم توحدت مرة أخرى فى 30 يونيو لتستعيد نفسها وتهزم من أرادوا تغيير هويتها.. أم أننا مع خوارج هذا الزمان ومن يدعمونهم ويتآمرون معهم من الخارج لكى يقسموا مصر، ويضربوا وحدتها الوطنية، التى هى قدس الأقداس على مر العصور وإلى يوم الدين؟!
دون الدخول فى التفاصيل.. مسؤوليتنا جميعا أن يكون لدينا دستور يساوى المواطنين جميعا فى الحقوق والواجبات، وأن يكون لدينا برلمان يجسد قيم الثورة ووحدة كل أبنائها، ويضمن الوجود الحقيقى والفعال للأقباط، إلى جانب المسلمين، وللمرأة بجانب الرجل، وللعمال والفلاحين بجانب كل فئات الشعب الأخرى.
فى 30 يونيو غادرنا قطار الإخوان الذين كانوا يأخذون مصر على طريق قندهار وظلام العصور الوسطى.. ما زلنا ننتظر القطار الذى يأخذنا إلى الدولة الحديثة وإلى المستقبل المنشود.. هذه المرة لن نسمح بأن نستقل القطار الخطأ، أو أن يفوتنا الموعد، أو أن يقطع أحد علينا الطريق!!