بأريحية منقطعة النظير، تعامل توم هانكس مع مَن ينادونه فى أى حفل، قائلين «فورست جامب»، الدور الذى حصد من خلاله الأوسكار قبل 18 عامًا، رغم أنه قبلها بعام اقتنص الأوسكار عن فيلمه «فلاديلفيا»، ولديه نحو خمسة ترشيحات أخرى من بينها «إنقاذ الجندى رايان»، واعتقد أن الأوسكار الثالثة ليست بعيدة عنه عن دوره فى فيلم «كابتن فيليبس» القبطان الذى أنقذ السفينة الأمريكية من أيدى القراصنة الصوماليين فى 2008، بلغ هانكس فى الدور قمة الأداء، وكان قد حرص على أن يلتقى القبطان الحقيقى، من المؤكد أنه لم يكن لقاء تعارف، ولكن كان هانكس يبحث ربما عن لمحة خاطفة يحيلها إلى إبداع خاص على الشاشة، توم لم يصب بعد بعقدة كراهية النجاح الطاغى لدور أداه فى مشواره، فأصبح عنوانه، ربما لإدراكه أن النجاح ليس متعلقًا فقط بإجادته، ولكن لعوامل نفسية فى التلقّى، تجعل من عمل فنى حالة استثنائية عند الجمهور، تجب ما قبلها وأحيانًا تحجب الرؤية عما بعدها.
الناس تتعجّل أحيانًا فى البحث عن صفة ما نلصقها بالفنان، لتصبح دلالة عليه، وعانى من ذلك عدد من المطربات القدامى، مثل رجاء عبده التى صارت هى مطربة «البوسطجية اشتكوا من كُتر مراسيلى»، وأحلام «يا عطارين دلونى الصبر فين أراضيه»، ونجاة على «فاكراك ومش حانساك».
فى بداية المشوار من الممكن أن يُصبح هذا الاختصار له منطقه وضرورته، مثل شيرين التى كانت قبل عشر سنوات تحمل لقب «شيرين آه ياليل»، وذلك للتفرقة مع شيرين وجدى التى سبقتها بعشر سنوات، ولكن مع الزمن صار يكفى أن تقول شيرين، لتصبح هى شيرين، التى لم تعد «آه ياليل» عنوانها، بل صارت هى عنوانًا مضيئًا للأغنية المصرية فى العالم العربى، فهى الأكثر تداولًا وحميمية وجماهيرية.
أتذكر فى بداية مشوار أحمد زكى وحتى منتصف السبعينيات، كانت الناس تُطلق عليه فى الشارع «أحمد الشاعر» دوره فى مسرحية «مدرسة المشاغبين»، كان النجاح الذى حققته المسرحية غير مسبوق، وبالطبع كان اسما عادل إمام وسعيد صالح لهما رصيدهما الجماهيرى، ولكنه كان الشاعر الطيب الفقير الموهوب، وبعد بضع سنوات قليلة قفز أحمد زكى خُطوات أبعد، ولم يعد أحد يتذكّر «أحمد الشاعر» إلا فقط فى أرشيف مشواره كنقطة البداية.
الشاعر السودانى الهادى آدم الذى رحل عام 2006، لم يكن يشعر أبدًا بالارتياح فى أى منتدى يدعى إليه عندما يطلبون منه أن يُسمعهم رائعته «أغدًا ألقاك» التى غنّتها أم كلثوم بتلحين عبد الوهاب، وانطلقت باسمه إلى عالم المجد والشهرة، كان يشعر أن هذا النجاح مقترن بكوكب الشرق، وليس بقامته وقيمته الأدبية، ولهذا تعامل بقدر لا ينكر من العداء مع «أغدًا ألقاك» واعتبرها فيروسًا يغتال إبداعه.
النجاح الطاغى مثل الفشل الذريع، فى الحالتين له أعراض جانبية، ليس كل البشر مؤهلين للتعامل معه، الإنسان فى كل مرحلة من حياته يحتاج إلى قفزة، تبدو أقرب إلى نهاية فصل ليبدأ بعدها فصلًا جديدًا ينطلق من خلاله إلى مرحلة وآفاق أرحب، ولكن ما الذى يملكه إذا ما وجد أن الناس تتوّقف أمام فصل واحد وذروة واحدة تُصبح بمثابة عُقدة يظل يعانى منها، المخرج الراحل كمال عطية كانوا يشيرون إلى اسمه باعتباره مخرج «قنديل أم هاشم»، كمال المصرى القبطى دخل مسجد السيدة زينب وقدّم هذا الفيلم، ووقتها فى نهاية الستينيات لم يكن سؤال الدين مطروحًا أصلًا، وظل فى الذاكرة المصرية مخرج «أم هاشم».
هل لو لم تنجح مثل هذه الأعمال الفنية لهؤلاء المبدعين لأصبح ذلك هو الأفضل لهم؟ هناك حكمة إلهية، لولا شهرة أغنيات رددتها كل من رجاء عبده وأحلام ونجاة على، ربما لم يكن أحد سيتذكرهن إلا فقط باعتبارهن مطربات عبرن التاريخ، مثلًا المطربة والملحنة ملك التى لحّنت حتى الأوبرا، ولمعت فى مرحلة زمنية موازية لهن، إلا أنها صارت مع الزمن مجرد اسم عابر فى تاريخ الغناء يعرفه المتخصصون، ولكن لا تتذكر لها الجماهير أغنية ناجحة.
هل لا يتمنى توم هانكس أن يقهر بكابتن فيليبس فورست جامب؟ أتصوره يتمنى ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، حتى لو كان توم هانكس!