عندما حدث الصدام الدامى بين الدولة وجماعة الإخوان اعتقد البعض أنه تعلق بـ«خطر الدولة الدينية»، والكثير تحدث أيضا عن خطر «تنظيم الإخوان الدولى» على هوية الدولة المصرية.
مع ذلك، فإن الجدل فى موضوع الهوية ظل سطحيا ومتخبطا، متجنبا بعض المعضلات الأساسية التى أفشلت محاولات بناء أمة مصرية حديثة خلال القرن الماضى، والتى تمثلت فى صراع بين من اعتقد بوجود هوية مصرية خاصة تعترف بالتعدد الثقافى الناتج على أساس مصرى قديم تلاحم مع بيئته المتوسطية والعربية، وبين من أعلى الهوية المصرية القومية العربية، ومن اعتقد أن الدين الإسلامى يشكل أساس الهوية المصرية.. احتد الصراع الجدلى بين هذه التأويلات للهوية المصرية خاصة فى النصف الأول من القرن العشرين، وكان يضم بين أطرافه أمثال طه حسين وسيد قطب- مثلا فى سياق الجدل الذى نشأ بعد نشر الأخير لكتابه عن «مستقبل الثقافة فى مصر»- أما فى مصر عام 2013، وبعد صراع مرير دار حول مسألة الهوية دون التطرق للتفاصيل بطريقة جادة، وخلال عملية وضع دستور جديد من المفروض أن يحدد طبيعة المجتمع والدولة المصرية، فاقتصر (على حد علمى) طرح تصور الهوية المصرية كتركيبة تاريخية متعددة الثقافات على كلمة قصيرة للفنانة ليلى علوى (مشكورة)، وهذا فى مجتمع لا يعطى ثقلا لآراء العاملين بالمجال الفنى عامة. أما بالنسبة للهوية الدينية «العابرة للقارات» فالسؤال الذى ظل مسكوتا عنه كان: إذا كان الإخوان لهم «تنظيم دولى» يعمل على محو الهوية المصرية، فماذا عن التيار السلفى المتأثر بالفكر الوهابى، والذى يستخدم «حق الفيتو» تكراريا فى سياق عملية صياغة الدستور؟
يبدو أن «مواد الهوية» فى الدستور الجديد لن تختلف كثيرا عن مثيلتها فى «دستور الإخوان». لذلك لا يمكن الجزم بأن خطر التسلط الدينى قد زال نتيجة صراعات الصيف الماضى. بل إن الكثير ممن أيدوا خلع الإخوان لا يعترضون على تسلط الدولة من حيث المبدأ، ورؤيتهم لهوية الدولة والمجتمع متخبطة، ولا تتعارض فى ضبابيتها بالضرورة مع فكرة الدولة الدينية. لذلك يظل خطر الدولة الدينية التسلطية واردا فى سياق جديد، حتى فى ظل غياب الإسلام السياسى عن السلطة.
بل من الصعب إحراز تقدم فى مسألة الهوية فى ظل المناخ العام الحالى. مثال بسيط: تم بث لاحقا، فى برنامج للمذيعة ريهام السهلى، لقاء مع شاب «ملحد»، تم التعامل معه وكأنه مريض نفسيا هبط من السماء ويشكل خطرا على المجتمع، رغم أن الدول الصناعية الكبرى احتوت الملحدين دون أن تتفكك أو تنهار. ثم اتضح أن رأى المشاركين فى البرنامج أن الحظر على حرية العقيدة فى المجال العام لا يجب أن يقتصر على الملحدين، إنما على كل من يطرح أفكارا تبدو متناقضة مع تفسير حرفى للنص الدينى- وبالطبع على معتقدات الديانات غير السموية- أى على معظم التراث الثقافى الإنسانى.
أما المستوى الفكرى لحوارات الهوية فهو المحزن فعلا. فمثلا، خلال «لقاء الملحد» المذكور، قال الضيف الند- أستاذ الشريعة- إن علماء العالم رفضوا نظرية التطور، فى حين أن تطور الكائنات الحية حقيقة إمبيريقية مبنية على أدلة عملية لا يختلف عليها علماء الأحياء الجادون، رغم وجود بعض الجدل حول تفاصيل آليات حدوثها. بل إن الكثير من رجال الدين- خاصة فى العالم الصناعى- يعترفون بذلك، ولا يرون تناقضا مع النص الدينى السماوى لأن فهمهم له لا يقتصر على قراءات حرفية محدودة الأفق. ثم تطرق الضيف إلى قائمة العلماء الذين تم اضطهادهم فى الغرب، وذكر أسماء لبعض العلماء الذين قال إنه تم إعدامهم (ولم يعدم أحد منهم)، وكان من بينهم نيوتن، فى حين أن نيوتن تم تكريمه فى حياته بكرسى أستاذية بجامعة كامبردج وبلقب الـ«سير»، وكان من أهم الذين شيدوا الجمعية الملكية.
الجدل حول مسألة الهوية فى هذا الإطار يبدو محدود الجدوى، وإمكانية الوصول لتوافق من خلاله تبدو معدومة. لقد أحس الكثير من المصريين «فطريا» بخطر الإقصاء الذى جسده حكم الإخوان، فساندوا الدولة فى صراعها مع الجماعة، رغم غياب تصور بديل واضح لهوية تلك الدولة. وهذا التصور البديل لا يمكن أن يتبلور إلا فى سياق فكرى مختلف تماما عما هو مسيطر حاليا. من الأفضل إذن ترك هذه المسألة للمستقبل والتركيز على النواحى السياسية والاقتصادية العملية التى يمكن إحراز تقدم فيها، فى سبيل النهوض من المأزق الحالى وتفادى تمزق البلاد.