لا أستطيع أن أتعامل ببساطة مع عمل فنى صُنَّاعه يدركون من البداية أنه بعيد عن الحس الجماهيرى، ويجب ملاحظة أن هناك خيطًا رفيعًا لكنه حاسم بين التجارية والجماهيرية، فلا يوجد خصام حتمىّ بين الناس وتلك الأفلام.
ما الذى يعنيه تصريح المنتج محمد حفظى للزميل محمد الأسوانى على صفحات «التحرير» أن فيلميه «فرش وغطا» و«فيلا 69» سوف يُعرَضان قبل نهاية هذا الشهر ولمدة أسبوع واحد فى دور العرض، ثم ينتقلان إلى الفضائيات بعد أن أنهيا الرحلة مع المهرجانات السينمائية؟ فرش كُلِّل بجائزة «مونبلييه»، و«فيلا ٦٩» بجائزة لجنة تحكيم الفيلم العربى فى أبو ظبى.
هل نصنع أفلاما من أجل المهرجانات، وبعد رحلة قصيرة تتوجه إلى مشاهدى التليفزيون؟ أعلم بالطبع أن طبيعة العمل الفنى تفرض أسلوب المعالجة الدرامية والفنية، ولكن السينما ليست فقط التجارية القُحَّة على طريقة «عبدة موتة» لإسماعيل فاروق، أو الفنية المزعجة على طريقة «الحاوى» لإبراهيم بطوط. هناك طريق ثالث علينا أن نبحث عنه، وعندما لا نصل إليه نحاول مرة أخرى. وإذا كنا فى السياسة صرنا نخون من يدعون إلى هذا الطريق، وهو يحاول أن يُمسك بين المتناقضات، فإن الأمر ينبغى أن يختلف تمامًا فى الثقافة، خصوصًا فى الشأن السينمائى، وهو بطبيعته فن تنعشه أنفاس وتصفيق وتعليقات وضحكات الناس فى دور العرض.
ليس عَبَثًا مثلا أن تاريخ السينما لا يؤرَّخ بتصوير أول فيلم ولكن بعرضه تجاريًّا، وهكذا مثلًا نقول إن الأخوين لوميير (لويس وأوجست) صنعا أول فيلم فى 28 ديسمبر 1898عندما عرضاه فى «الجراند كافيه» بباريس مقابل فرنكَين، التذكرة مدفوعة الأجر واحدة من شروط الـ«دى إن إيه» للاعتراف بالميلاد الشرعى للفيلم.
حفظى مثلا عرفناه كاتبًا قبل 12 عامًا بفيلمه «السلم والثعبان» لطارق العريان، ومن البداية كان يجمع بين الحس الجماهيرى واللمسة الفنية، الإحساس باللغة المشتركة بين صانع العمل الفنى والجمهور واحد من أسلحة الفنان التى ينبغى أن يحرص عليها حتى تصل الرسالة، كما أن صناعة السينما حتى تتواصل دورة رأس المال يجب أن لا تُغفِل هذا الجانب. اعلم بالطبع أن عددًا من مشروعات السينما المستقلة يتحقق اقتصاديًّا بعيدًا عن انتظار مردود الشباك فى حدود ما تدفعه شركات إنتاج عربية وأجنبية من مساهمات، وبأقل هامش من المغامرة الاقتصادية يتم إنتاج الفيلم، ولكن ليس على هذا النهج تستمر صناعة الأفلام. بالفعل التجارب السابقة فى مجال ما يُطلِق عليه الإعلام والصحافة السينما المستقلة لم تحقق تواصُلًا واضحا مع الجمهور مثل أفلام «الشتا اللى فات» و«هرج ومرج» و«عشم»، لكن كانت هناك محاولات على الجانب الآخر للتواصل الجماهيرى مثل فيلمَى «هيليوبوليس» و «ميكروفون»، حتى لو لم يتحققا جماهيريًّا بالقدر الكافى فإن لهما حسًّا جماهيريًّا. بالطبع لا نطلب من المخرج التنازل عن طموحه لكى يصل إلى الناس، ولكن إغفال أن فى المعادلة جمهورًا أمر لا يمكن التعامل معه ببساطة كأنه قدر لا فكاك منه.
جيل مخرجى الثمانينيات خان وخيرى وداوود وعاطف وعرفة والميهى لم يقدموا تنازلات من أجل الحصول على موافقة السوق، ولكنهم صنعوا السينما التى يحلمون بها، وأغلب أفلامهم صالحها الجمهور، بل إننا فى دنيا الإيرادات لا يمكن أن ننكر أن عرفة والميهى كانا من أكثر المخرجين فى السينما المصرية تحقيقا للإيرادات، كانوا يتعاملون مع شركات لها منطقها التقليدى فى الإنتاج، ورغم ذلك أنجزوا أفلامهم، ولو راجعت بدقة قائمة أفضل 100 فيلم مصرى التى أعلنها مهرجان القاهرة السينمائى عام 1995، وقائمة أفضل 100 فيلم عربى التى أعلنها قبل أيام مهرجان دبى، فستكتشف أن أكثر من 50% من هذه الأفلام نجح أيضا بالمقياس التجارى، ورغم كل ذلك وعبر تاريخ السينما، سيظل هناك أعمال بطبعها تُقدِّم نغمة مختلفة ليس من السهل أن يرددها مباشرة الجمهور، ولكنها تُشكِّل فقط الاستثناء، أما القاعدة فهى أن السينما لا يمكن أن نضعها فى غُرف مغلقة ومعقمة أو على جهاز التنفس الصناعى لتشاهدها لجان التحكيم ونعتبرها حية ترزق ما دامت تحصد جوائز المهرجانات. السينما لا تُصبح سينما إلا مع أنفاس الناس!