«اشهد يا محمد محمود... كانوا ديابة وكنا أسود»، هتاف قد تسمعه كثيرا فى مسيرات ما بعد أحداث محمد محمود حتى الآن، يحمل إدانة الأسود لجميع من تخلوا عنهم وباركوا قتلهم، يمكنك أن تميز فى أى مسيرة من حضر تلك الأحداث وعاشها عن غيره بمجرد ترديد الهتاف، فتجد علامات ما بين الصلابة والشجن ودموع تترقرق فى أعين الثوار على شهداء فقدوهم وخذلان كثيرين وإصرار على استكمال مسيرة الثورة.
كل شىء مساء يوم 19 نوفمبر 2011 كان ينبئ بأنها معركة الحالمين بالتغيير لا الساعين للسلطة، بدءاً من الشارع الذى حمل اسم رئيس وزراء مصر ووزير داخليتها عام 1937- 1938، الذى طبق سياسة الأيدى الحديدية ونكل بمعارضيه، حتى رائحة القنابل المسيلة للدموع وغاز الأعصاب الذى يملأ المكان مختلطا بروائح حرق الأخشاب وإطارات السيارات للحد من تأثير تلك الغازات، والفتيات الواقفات على مدخل الشارع حاملات زجاجات الخل وبخاخات الخميرة يستقبلن منه أسودًا قاربوا على فقدان وعيهم نتيجة الغاز ليستعيدوا ما فقدوه من طاقة للعودة لساحة معركة الحرية من جديد.
السخرية الجماعية بينك وبين كل أصدقائك بعد المكالمة التى تكررت من الجميع تقريبًا والتى كنا نسمعها من طرف واحد يبتعد عن أماكن الاشتباكات لتكون المكالمة: «آلو.. أيوة يا ماما.. لأ تحرير إيه أنا قاعد مع أصحابى فى الكافيه.. ماتقلقيش مش هاروح هناك.. وأنا مالى أصلاً.. إدعى لى بس»، ثم يعود مسرعًا لحمل قنبلة الغاز التى أطلقت أثناء مكالمته ويردها على من أطلقها ليحمى رفاقه من تأثيرها، وتنطلق أسطورة جيل لا يخشى الرصاص بقدر ما يخشى والديه.
أصدقاء لك حملتهم مصابين بين الحياة والموت، أو من حملت أجسادهم بعد أن فارقوا الحياة حتى تحميهم من الإهانة بعد الاستشهاد وإلقاء أجسادهم فى وسط المخلفات، أو هؤلاء الذين فقدوا نعمة البصر بإصابات مقصودة فى الوجه، وتعلم أن آخر ما رأته أعينهم رجال نظام مستبد يطلقون الرصاص عليهم ليقتلوهم أو يحرموهم من نعمة البصر، لكنهم احتفظوا ببصيرة نافذة وقلب لا يهاب الموت فى سبيل الحرية.
أصوات سيارات الإسعاف تملأ المكان مختلطة بأصوات الجنود المجهولين أصحاب الدراجات البخارية الذين احتشدوا يعرضون حياتهم للخطر لينقلوا المصابين من الصفوف الأولى، أول مرة تكتشف أن أصوات الرصاص لم تعد تؤتى تأثيرها الإنسانى عليك بالخوف من الموت، بل تزيدك إصرارًا على تحقيق حلمك، وتذكرك بضرورة كتابة اسمك ورقم تليفونك للتواصل فى حالة وفاتك حتى يتم التعرف عليك إذا استشهدت ورد جثتك لذويك، علم مينا دانيال وعلم مصر فى الصف الأول للمواجهة، الذى لا يتراجع حامله مهما تقدمت قوات الشرطة فى الهجوم، ليذكرك بأنك يجب أن تثبت فى مكانك ولا تتراجع قيد أنملة، فهى ليست معركة عابرة، لكنها حلمك الذى يجب أن تتمسك به حتى آخر لحظة من حياتك.
جسارة شباب لم يتجاوز أكبرهم منتصف الثلاثينيات لم يحملوا سوى حجارة للدفاع عن أنفسهم فى مواجهة قوات نظامية مسلحة بالغازات السامة والرصاص الحى والمطاطى والخرطوش، تحاول أن تجعلك تمل أو تتراجع عن حلمك، وفى النهاية تضطر أن تبنى جدارًا أسمنتيًا بينك وبينها لتقلل من خسائرها، ثم تتراجع منسحبة بعد أن هزمت رغم ما كبدته للثوار من أرواح قضت نحبها وشباب فى مقتبل العمر تركتهم بدون نعمة البصر، فيبدأ فنانو الجرافيتى فى تخليد شهدائهم برسم وجوههم على حوائط الشارع.
إصرارك بعد انتهاء الاشتباكات على اصطحاب ابنك الذى لم يتجاوز العامين وتعلمه أن هذه هى الثورة، وتصر على أن تجعله يحفظ عن ظهر قلب أسماء أصدقائك المرسومة وجوههم على الحوائط، قائلًا له بفخر إن هؤلاء هم أصدقاؤك الذين قاموا بالثورة، خشية أن تقتل فى المعركة التالية قبل أن تلقنه وتجعله يحفظ أسماء أبطال ثورتنا وتحفر فى ذاكرته صورهم وأسماءهم وفى قلبه حلم التغيير وحب الثورة، لأنك لا تعرف تأثير الآلة الإعلامية المضادة على عقله الصغير فى المستقبل.
كل من خاض معركة الثورة فى شارع محمد محمود، وكل الظروف الموضوعية تنبئ بهزيمة فادحة له، لكنه أصر على النصر، أو على الأقل أن ينتهى عمره فى ساحة الحرية بين رفاقه لم يخرج منها كما دخلها، فقد تركت هذه المعركة ندبة فى القلب لا يمكن تجاوزها، وتمسكًا بحلم لا يمكن التنازل عنه، وإصرارًا على استكمال مسيرة الثورة حتى الانتصار ولا بديل، هل تظن أن أيًا من هؤلاء يمكن أن يحتفل بذكرى معركته قبل النصر النهائى؟ هل تظن أنه يمكن أن يقف صفًا واحدًا مع من حاول كسر حلمه بالقتل والإرهاب؟ أو من تواطأ واتهمه بالبلطجة وبأنه مأجور ومدمن مخدرات مأجور من جهات خارجية؟ إذا خطر لك هذا الخاطر فستكون واهما، وستواجه مقاتلين أشد شراسة فى الدفاع عن حلمهم بوطن للجميع عماده الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، حلم سيحققونه ويجعلونه واقعًا لا محالة.. لا محالة.