نحن لا نعرف تاريخنا، وليست هذه هى المرة الأولى التى أكتب فيها هذه الجملة، أو أعلن هذا الإعلان، لكن عودتى للحديث عن تاريخنا الذى نجهله لها أسباب يستحق كل منها وقفة خاصة، والأمة التى تصحح تاريخها فى هذه الأيام وتصنعه من جديد تحتاج لأن تعرف التاريخ.
بعضنا يظن أن التاريخ ليس إلا مادة فى البرامج الدراسية مقررة على تلاميذ المدارس يستذكرونها ويؤدون فيها الامتحان، ولا بأس عليهم بعد ذلك أن ينسوا ما حفظوه من تفاصيلها الكثيرة التى تنوء بها الذاكرة.
هؤلاء يعتقدون أن الحياة العملية التى نعيشها لا علاقة لها بالتاريخ، وأن الحى أبقى من الميت، وأن الحاضر أولى بالاهتمام من الماضى. فهو حافل بالأسئلة والتحديات التى يجب أن نواجهها بكل طاقاتنا، لأنها تحاصرنا من كل جانب، ولا تترك لنا فرصة أو فرجة ننظر منها لماضينا البعيد لنحيط به ونتأمله وننشغل به.
ولاشك فى أن أسئلة الحاضر كثيرة ملحة. لكن هذه الأسئلة لم تظهر فجأة، ولم تأت من العدم. وإنما هى ميراث قادم من الماضى أو أن لها على الأقل أصلاً فيه. وهل نستطيع على سبيل المثال أن نفهم مشكلتنا الراهنة مع حكم الطغيان إذا كنا لا نرى جذوره الضاربة فى ماضينا، وإذا كنا لا نسأل أنفسنا عن الأسباب التى مكنت الطغاة من رقابنا؟ وهل كانت هذه الأسباب كلها مفروضة علينا من خارجنا؟ أم أننا كنا نحن أنفسنا سببا من أسباب الطغيان لأننا لم نقاومه، أو لأننا فهمناه على غير حقيقته فخلطنا بين الطغيان والنظام، وبين الحاكم المستبد ورب الأسرة، وخشينا أن نقاوم الطاغية فنوقظ الفتنة ونقع فى الفوضى؟
وقد رأينا من المؤرخين من يتهمنا بالجبن والنفاق ويعتبر هذه الرذائل طبيعة متأصلة فينا، كما نجد مثلاً فيما كتبه الشيخ عبدالله الشرقاوى الذى تولى مشيخة الأزهر فى أواخر القرن الثامن عشر وأصبح رئيساً للديوان الذى أنشأه بونابرت ليساعده فى إدارة شؤون البلاد خلال الفترة التى احتل فيها الفرنسيون مصر. ففى رسالة كتبها الشرقاوى فى التاريخ يقول عن المصريين إن «عندهم بشاشة وملقة. وعندهم قلة الصبر فى الشدائد وشدة الخوف من السلطان». وربما وجد بيننا حتى الآن من يصدق هذه التهمة ويرددها ويبنى عليها آراءه فى السياسة ومواقفه من النظم والحكومات. فهل طرحنا على أنفسنا هذا السؤال؟ وهل نظرنا فى تاريخنا لنحقق هذه التهمة ونعرف إن كانت حقا أم نحن منها أبرياء؟!
لقد عشنا خمسة وعشرين قرنا فى ظل الغزاة والطغاة، مغلوبين على أمرنا، محرومين من المشاركة فى حكم بلادنا، ومن شرف الدفاع عنها إذ كان علينا أن نفلح أرضنا فحسب ونسلم غلتها للحكام الأجانب. فهل كنا خلال هذه القرون الممتدة راضين منصاعين، أم أننا ثرنا مرات، وقاومنا مرات، وتعرضنا للموت مرات ومرات؟ اقرأوا التاريخ لتروا كيف ثرنا ضد الهكسوس وضد الغزاة المحتلين الذين تدفقوا على بلادنا موجات متتالية فى القرون التى سبقت ميلاد المسيح وبعدها. واقرأوا بعد ذلك كيف قاوم المصريون المسيحيون بيزنطة، وكيف قاوموا الأمويين، وكيف قاوموا الأتراك العثمانيين.
وحين ننظر إلى ثوراتنا فى هذا العصر ضد الفرنسيين والإنجليز وضد الحكم المطلق، هل نصدق تلك التهمة الشنيعة التى رمانا بها بعض المؤرخين، أم نراها شهادة زور أراد بها هؤلاء أن يبرروا الطغيان ويصوروه لنا ولغيرنا كأننا وحدنا المسؤولون عنه، أو كأننا لا نستطيع أن نعيش بدونه، وكأن الطغاة لم يفعلوا إلا أن رأوا حاجتنا للطغيان فلبوا هذه الحاجة واستجابوا لما نريد!
فإذا تبين لنا أنها تهمة كاذبة، ولاشك فى أنها كاذبة، أصبح علينا أن نصحح موقفنا من التاريخ وأن نفهمه على حقيقته لنرى كيف سارت أمورنا وتغيرت حياتنا، وكيف نشأت هذه الظواهر وتطورت الأسئلة والإجابات. باختصار، علينا أن نعرف تاريخنا لنعرف أنفسنا.
وهناك من لا يكتفون بجهلهم بتاريخ بلادهم، بل يتجاوزون جهلهم بهذا التاريخ إلى التبرؤ منه وإنكار الانتساب إليه، لأنه سابق على الإسلام. والإسلام يجبُّ ما قبله، أى يقطع- كما يفهمون هم هذه العبارة- بينهم وبين أسلافهم الذين كانوا يدينون بغير الإسلام. وهذا هو فهم الجهلاء لهذه العبارة.
الإسلام يقطع بين المسلمين والعقائد التى كانوا يعتنقونها قبله، فهو ليس عقيدة تضاف إلى ما قبلها أو تختلط بها، وإنما هو عقيدة أخرى لا تقبل الإضافة أو الاختلاط وإن تأثرت فى كل بيئة بعقلية أصحابها. فإذا أخلص المسلم لعقيدته ولم يخلطها بغيرها فلا ضير عليه بعد ذلك إذا قرأ تاريخ بلاده، بل هو مطالب بأن يقرأ هذا التاريخ ويعتز به لينتفع ويعتبر. ونحن نرى أن العرب بعد الإسلام لم يتنكروا لتاريخهم السابق على الإسلام رغم كل ما كان فيه. لقد قطعوا ما بينهم وبين الشرك والوثنية، لكنهم لم يقطعوا ما بينهم وبين لغة الجاهلية وشعرها وأيامها ومعاركها، ولم يتبرأوا من أسلافهم وقبائلهم وعشائرهم بل ظلوا يعتزون بأنسابهم ويتعصبون لقبائلهم، حتى انتهى أمرهم إلى تلك المواجهات الدامية، التى شقت صفوفهم ومكنت منهم أعداءهم.
ونحن نعرف أن الشعر الجاهلى كان مرجعاً أساسياً للفقهاء المسلمين، يعودون إليه ليفهموا القرآن ويفسروا آياته ويقدروا ما فيها من فصاحة وإعجاز.
بل نحن نرى أن الحج وهو ركن من أركان الإسلام له أصل فى العصور التى سبقت الإسلام، إذ كان العرب فى تلك العصور يحجون إلى مكة من أنحاء الجزيرة ويعظمون الكعبة ويؤدون كثيراً من الشعائر والمناسك التى يؤديها المسلمون. فإذا كان هذا مثلاً ضربه لنا الإسلام فى احترام التاريخ والاعتزاز به فلن يعد خروجاً على الإسلام أن نعرف تاريخ أجدادنا الفراعنة وآبائنا المسيحيين، وأن نعتز به وبالحضارة التى بنوها والعقائد والقيم التى سبقوا إليها، ومنها عقيدة التوحيد التى بشر بها إخناتون وصدقتها الديانات السماوية.
غير أن البعض، وأقصد الإخوان والسلفيين وغيرهم من جماعات الإسلام السياسى يتبرأون من القديم والحديث، يتبرأون من منف وطيبة، من الأهرام وأبى الهول. من كتاب الموتى وأناشيد إخناتون. من مكتبة الإسكندرية والكنيسة القبطية، ومن محمد على وسعد زغلول، من الطهطاوى ومحمد عبده، ومن شوقى وطه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ. لأن الإسلام الذى دخل مصر مع الفاتحين العرب يجبُّ ما قبله وما بعده، ويمحو من الوجود مصر الفرعونية، ومصر الهللينية، ومصر القبطية، مصر الحديثة. مصر القديمة فى نظر هؤلاء جاهلية قديمة. أما مصر الحديثة فهى جاهلية القرن العشرين.
لكننا فى الثلاثين من يونيو صححنا تاريخنا بأيدينا. وعلينا الآن أن نقرأه من جديد ونصحح وعينا به!