تدشن زيارة وزيرَى الخارجية والدفاع الروسيين لمصر مرحلة جديدة فى منطقة الشرق الأوسط، فهذه الزيارة الثنائية التى تقصرها روسيا على عواصم القوى الكبرى فى العالم، تمثل نقلة نوعية فى العلاقات المصرية الروسية، ولا مبالغة فى القول إنها تمثل مرحلة جديدة فى المنطقة، مرحلة تشهد عودة العلاقات الروسية المصرية لتأخذ مكانة متقدمة سبق ومرت بها فى عقدَى الخمسينيات والستينيات فى عهد جمال عبد الناصر، ومن ثم تشهد فى الوقت نفسه عودة مصر للعب دور إقليمى فاعل كأكبر قوة عربية بعد قرابة أربعة عقود كاملة من التراجع والتدهور حتى وصلنا إلى سنوات مبارك الأخيرة التى أصبحت خلالها مصر قوة تابعة لواشنطن وملعبا لقوى إقليمية بل ودويلات قزمية تمدَّد نفوذها حتى سيطر على الساحة المصرية. فى هذه الفترة كانت مصر عبارة عن حليف تابع لواشنطن وتمثل إحدى أهم القوى المنفذة للسياسة الأمريكية فى المنطقة، وتقلَّص نفوذ مصر ودورها لينحصر فى إطار خدمة أهداف السياسة الأمريكية فى المنطقة. بل إن مصر وقفت عاجزة عن الفعل فى مواجهة مخططات لتفتيت المنطقة وتجهيزها لتكون تحت الهيمنة الإسرائيلية - التركية، وتقف مكتوفة الأيدى أمام المخططات الأمريكية الرامية إلى تفتيت الكيانات الكبيرة فى المنطقة فى ما سمته واشنطن الشرق الأوسط الجديد، وقَبِل مبارك لعب دور المنفِّذ للسياسة الأمريكية فى المنطقة فى سياق خطته الرامية إلى توريث السلطة لنجله الأصغر، فقد وصل إلى معادلة مع واشنطن مؤداها «مستعدون لتنفيذ كل مكونات الأجندة الأمريكية فى المنطقة وأن تعمل السياسة الخارجية المصرية على رعاية وتنفيذ السياسة الأمريكية فى المنطقة عبر تنفيذ كل ما يُطلب من مصر إقليميا ودوليا، مقابل ترك مبارك ورجاله يحكمون مصر بالطريقة التى يرونها تتوافق ورؤيتهم».
وجاءت ثورة الخامس والعشرين من يناير ٢٠١١، التى قفز عليها الإخوان لتقدم لواشنطن فرصة جديدة بعد أن جاء فصيل الإسلام السياسى ممثلا فى التنظيم الدولى للجماعة، حيث عرض على واشنطن القيام بالدور الذى يقوم به مبارك فى المنطقة إضافة إلى حماية ورعاية أمن إسرائيل بالفعل عبر ضبط حركة حماس، الفرع الفلسطينى للجماعة، مع عرص إضافى يتمثل فى العمل مع حليف واشنطن الأول فى المنطقة وعضو حلف الناتو، تركيا. أُبرمت الصفقة وحدث الزواج بين الإدراة الأمريكية والتنظيم الدولى للجماعة، وبنت واشنطن استراتيجيتها فى المنطقة على الجماعة التى كررت أنها جاءت لتستقر خمسة قرون فى السلطة، فأنفقت واشنطن ببذخ على مشروع الجماعة وساعدت فى مخطط التمكين.
ثار الشعب المصرى على حكم المرشد والجماعة، وحاولت واشنطن حماية مشروعها القائم على وجود الجماعة فى السلطة، وفشلت فى ذلك فشلا ذريعا، فقد انحاز جيش مصر إلى شعبها ولم ينحنِ أمام ضغوط واشنطن وتهديداتها. وهنا ارتكبت واشنطن خطأ تاريخيا مع مصر للمرة الثانية، ففى المرة الأولى كان قرار إدارة أيزنهاور بسحب تمويل السد العالى فردّ عبد الناصر بتأميم القناة والتوجه صوب الشرق وأبرم صفقة الأسلحة مع الاتحاد السوفيتى عام ١٩٥٥ (وهى الصفقة المعروفة إعلاميًّا بصفقة الأسلحة التشيكية)، وها هى المرة الثانية على يد إدارة أوباما التى أعلنت تجميد تسليم أسلحة وقطع غيار متعاقَد عليها ضمن المساعدات العسكرية السنوية التى تلتزم بها واشنطن لمصر ارتباطا بمعاهدة السلام مع إسرائيل، بل إنها أعلنت نيتها تخفيض هذه المساعدات وبررت ذلك بأنه نوع من الاحتجاج على قيام الجيش بخلع محمد مرسى، رافضة رؤية الحقائق على الأرض التى تقول إن الجيش لم يفعل أكثر من تنفيذ إرادة الشعب الذى خرج بالملايين إلى الشوارع والميادين مطالبا الجيش بوضع حد لحكم المرشد والجماعة. تريثت مصر فى الحركة، وكذلك موسكو، فكل منهما تعلم أن زمن الحرب الباردة قد ولَّى، وأن الراوبط التى تجمع كل منهما مع واشنطن كثيرة ومفيدة للطرفين، وفى نفس الوقت كانت كل منهما تريد أن يبدأ الآخر برسالة تفيد بالاستعداد للتعاون فى كل المجالات بما فيها العسكرية، كان الجيش المصرى يدرك أهمية الانفتاح على روسيا والحصول على سلاح متطور يمثل بداية لكسر حالة الاحتكار الأمريكى ويساعد على تنويع مصادر السلاح، وفى المقابل كان حاكم الكرملين القادم من جهاز الاستخبارات السوفيتى، يعلم قيمة ووزن مصر، مما يعنى عودة الدب الروسى إلى المياه الدافئة من جديد، لذلك كان حريصا على السير باتجاه الخطوات المصرية، فما إن زار وفدان شعبيين موسكو، حتى كان قرار الكرملين بإرسال وزيرَى الخارجية والدفاع معًا، وهو تقليد كما قلنا تتبعه روسيا مع القوى الكبرى فقط، ومن ثم فهى رسالة واضحة لمصر مؤداها «نعم نريد تطوير العلاقات فى كل المجالات بما فيها المجال العسكرى». وفى تقديرى أن تحرك موسكو هذا يدشن مرحلة جديدة من التعاون مع مصر والعالم العربى ويفتح صفحة جديدة لشرق أوسط جديد ومغاير، شرق أوسط بنكهة مصرية عربية، لا مجال فيه لفوضى خلاقة بقدر ما سيمهد لبروز دور القوى العربية الرئيسية والحفاظ على طابع المنطقة باعتبارها عربية، ويجرى التعامل فيه مع تركيا وإسرائيل وإيران باعتبارها دول جوار غير عربية تتحدد العلاقة معها حسب احترامها لقواعد اللعبة الجديدة فى المنطقة التى تقول بضرورة تراجع هذه الدول إلى داخل حدودها والتوقف عن كل أشكال التدخل فى الشؤون الداخلية للدول العربية، ومن ثم ينتهى حلم أردوغان فى الخلافة الجديدة، وتنتهى أساطير الدولة العبرية وتقبل إيران بمعادلة مع الجوار العربى قائمة على التوازن والاحترام المتبادل.