لعلك لا تستطيع رؤية الحقيقة إذا اعتمدت على النظرة الأولى السطحية، أو إذا شدك الحماس وسيطرت عليك المشاعر، فالمشاعر الجانحة غير المنضبطة لا تترك مجالا للعقل ولا تدع فرصة للبصيرة، المشاعر الجياشة تغطى على كل شىء، ساعتها لن تستطيع أن ترى إلا ما تحب، وستزيح من أمام عقلك ما لا تحب، لذلك أدعو بعضهم، فى هذا المقال، إلى أن يترك مشاعره قليلا، تلك المشاعر التى زينت لبعضنا أن من يرفع شعارات الدين يبتغى رفع الدين، وأن من يطلق لحيته ويسبل عينيه وهو ينظر لك إنما هو من رجال الله، أدعوك وأنت تقرأ هذا المقال أن تضع فارقا بين الدين والتدين، وبين الدين ومن يدعى التدين، فالدين رسالة سماوية مطلقة لا يرد عليها النقص، أما التدين فهو فهمنا للدين وممارستنا له وهو أمر بشرى يرد عليه النقص والخطأ والادعاء، فالإيمان يزيد وينقص.
لماذا هذه المقدمة إذن؟ لأننى عبر سنوات طويلة وقعت فى خطأ الخلط بين الدين والتدين فلم أر الحقيقة، وحينما بدأت فى مراجعاتى قادتنى هذه المراجعات الحرة إلى نتائج لم أستطع أن أتحملها وحدى، فكتبت بعضها ومكثت على دراسة البعض الآخر، ومن البعض الآخر وعبر ثلاث سنوات عكفت على عشرات الكتب، وقرأت مئات الوثائق، كنت أبحث فيها عن طريقة فهم الإخوان للدين، وكيفية قراءتهم للنصوص، ثم دخلت إلى عالم حسن البنا لأسبر غوره، كان ما أخذناه نقلا من الكبار أن حسن البنا كان مجددا، جدد للأمة أمر دينها، فهل فعل، وهل كتب، وهل ملأ الدنيا فقها وعلما، أم أنه عكف فقط على صنع تنظيم حركى له أهدافه وخططه، وحين أعدت قراءة التاريخ وجدت أن الأمر لم يكن كما تصورنا، لم يكن دينا وإنما كانت دنيا وحكما وسلطة، حتى إن البنا لم يتورع أن يضع يده فى يد المخابرات البريطانية ويتفق معها، وقد كانت هذه الصلة واضحة وضوح الشمس بحيث لا تحتاج إلى تدليل أو توثيق، ولكن للعلم أحكامه، وللفهم أصوله، لذلك بعد سنوات من البحث انتهيت من تأليف كتاب سميته «أئمة الشر»، وقد كشفت فى هذا الكتاب عن أصل الخطة الأمريكية التى من أجلها تقابلت مع الإخوان فى طريق المصالح، تماما كما يقف العصفور على فك التمساح يخلصه من بقايا الطعام، والعصفور آمن على نفسه فهو يقوم بمهمة ثقيلة لسيده التمساح ولكنه من خلال هذه الخدمة سيقتات من بقايا طعامه.
وبعد سنوات وأجيال، وأنظمة وأزمنة، توالى على الإخوان أمراء، وتغير على أمريكاـ وريثة بريطانياـ رؤساء، إذا بنا نرى أمريكا تقف بكل قوتها مع الإخوان الذين كانوا يحرقون أعلامها وينادون بمقاطعة بضائعها، أمريكا التى وصفها الإخوان بأنها عدوة الإسلام ورمز الصليبية تقف مع حركة تزعم انتسابها للإسلام وتريد أن تمكن لها فى الأرض! أليست هذه لوحة سريالية شديدة الغرابة تبدو مبهمة أو ملغزة! ولكن الأمر أبسط إن نظرنا إلى اللوحة بقدر من التعمق.
وضعت أمريكا منذ زمن خطة تفصيلية لإدارة العالم، تقوم على «التفكيك المنضبط» لاقتصاد العالم، فكرة التفكيك هذه تقوم على إشاعة الفوضى الاجتماعية، والحروب الإقليمية بين الجارات، والحروب الأهلية فى الدولة الواحدة، وسيترتب على هذا زيادة نسبة الوفيات فى العالم، فيما يشبه الإبادة، وستكون هذه الإبادة بيد سكان كل منطقة، لا بيد الدول الصناعية الكبرى، ولكى يؤتى المشروع ثماره يجب أن يكون تفكيك دول المنطقة عن طريق إشاعة الفتن الدينية والعرقية والحدودية، فلينقسم الشرق الأوسط إلى «سنة» و«شيعة» ثم فلينقسم العالم السنى إلى أنصار الدولة الإسلامية وخصومها، ومن الأفضل تضخيم الروح العنصرية بين أبناء الدولة الواحدة، وليكن ما يكون.
ثم ماذا بعد؟ ما الذى سيحدث، وكيف سيستفيد «العالم الصناعى العملاق» من هذا الأمر؟ ستقوم حروب فى المنطقة لا شك- وفقا لنبوءة خطة التفكيك- وستشتعل فتن طائفية وعرقية حينما يتم تغذية مدخلاتها، وأكبر تغذية ستكون بتولية الإسلاميين الحكم فى بيئة صالحة للاضطراب والاشتباك العقائدى، ولكن هل ستجنى أمريكا من تلك الحروب أرباحا؟ الربح هو الذى يدير العقلية الأمريكية، هو المسيطر على طريقتها فى الإدارة، وسواء كان الحكم عندهم «جمهوريا» أو «ديمقراطيا» فهو هو، أمريكا فى كل الأحوال هى المرابى «شيلوك» بصورته الحديثة المتطورة، هى المرابى الذى يريد اقتطاع أرطال اللحم من جسد العالم، وفى الشرق جسد على أتم الاستعداد لتقطيع لحمه، فكيف ستكسب من سياسة تقسيم الشرق وتقطيع لحمه؟
طريقة الاستفادة واضحة، إذ ستصبح أمريكا بنكا وشرطيا ومصنعا للسلاح، بنكا يسيطر على اقتصاد هذه المنطقة وصولا للسيطرة على اقتصاد العالم، وشرطيا يحمى أمن إسرائيل ويتدخل وقت ما يشاء لفض المنازعات الإقليمية أو التى تدور فى الوطن الواحد، ومصنعا للسلاح يقوم بتوريد منتجاته للمتحاربين، بالإضافة إلى أن المنطقة بهذا الشكل ستكون مرشحة للانقسام إلى دويلات تقوم على أساس عقائدى، فتكون من ناحية مبررا تاريخيا لبقاء دولة إسرائيل الدينية، وتكون من ناحية أخرى عبارة عن دويلات هشة ضعيفة متهالكة لا تشكل أى تهديد لإسرائيل.
وهذا هو ما ورد فى نصوص خطة «رؤية أمريكا للمستقبل» التى قالت نصا (سينشغل العالم الشرق أوسطى بنفسه، وسيندمج فى صراعاته، ولن يلتفت لتطوير نفسه وتحديث معارفه، وسيعود حتما للوراء عشرات السنين، وبذلك سيظل فى حاجة شديدة إلى دعم أمريكا له عن طريق مؤسساتها، وسيظل تابعا ذليلا لا يستطيع أن يبرم أمرا إلا من خلالنا، وسنضع الرؤساء ونستقدم الحكام كما نشاء، وسيجبرهم صندوق النقد الدولى على اتباع السياسات الاقتصادية التى نريدها)، انتهى ولكننا لن ننتهى.