لدىَّ مشكلة مع كل قانون جديد تفكِّر الحكومة (أو الرئيس) فى إصداره، فنحن بالفعل لسنا فى حاجة إلى قوانين جديدة، بل نحن لسنا فى حاجة إلى أى قانون جديد.
مصر معبأة بالقوانين، نحن بلد لا يلغى قوانين يصدرها، بل يصدر قوانين جديدة دون أن يلغى القديمة، لدينا سَنْدَرة أو غرفة خزين لآلاف القوانين، حتى إن أحدًا لا يتذكرها، بل ولا يطبقها تقريبًا.
هذا يذكِّرنى بحياتى عندما كنت عَزَبًا أتنقل من شقة إلى أخرى فكنت أجمع كتبى فى كراتين كثيرة، حتى زادت وفاضت، وكنت إذا احتجتُ إلى كتاب معين أعود فأشترى نسخة منه أفضل وأسهل من أن أقلب الكراتين وأتعب وأعرق وأتعفّر بحثًا عن نسختى القديمة.
هكذا الحكومة (العَزَبَة) بدلًا من أن تبحث عما تريده فى قوانين موجودة تقوم بتشريع قوانين إضافية، رغم أن كل ما نريده ونطمح إليه سياسيًّا وتنمويًّا واجتماعيًّا تقريبًا موجود فى كل القوانين التى نملكها فعلًا.
مصر فى حاجة ماسَّة إلى إلغاء قوانين، لا إصدراها.
المؤكَّد أنه مع كل تغير دراماتيكى فى البلد، ثورة أو مجىء رئيس أو رحيل رئيس تجد هذه الروح التى يعبر عنها سليمان حافظ نائب رئيس مجلس الدولة الأسبق والمستشار القانونى لمجلس قيادة ثورة يوليو ومستشار الرئيس محمد نجيب، فى مذكراته وهو يحكى عن عامَى 52 و1954 فخورًا بالقوانين التى صنعها لخدمة يوليو فى مواجهة العهد الملكى:
«قمت بتعديل كل ما يتعارض من القوانين والنظم مع غاياتها وأهدافها، كيما لا تصطدم به، فتضطر إلى انتهاكه، مما أنكره بعض الناس منِّى دون أن يحمِّلوا أنفسهم عناء إدراك غرضى منه، وبالَغوا فى التشنيع علىّ من أجله، حتى قالوا: (إن بى غُدَّة لا تهدأ أبدًا ما لم تفرز القوانين إثر القوانين).
وهكذا كنت أحرص كلَّ الحرص، وأهتم أشدَّ الاهتمام بأنْ لا تتعارض الثورة فى الكبيرة والصغيرة مع مُثُلِها ومبادئها، وأُعْنَى كلَّ العناية، وأفرغ قُصارى الجهد فى أن تكون جميع تصرفاتها مطابقة للقانون، وما كان سبيلى إلى هاتين الغايتين ميسرًا، فطالما صادفتْنى فيه متاعب ومصاعب لم يكن من شأنها أن تصرفنى عنه، بل أن تزيدنى عزمًا وإصرارًا على أنْ أبلُغ منه ما أريد، ولَكَم لاحظ علىَّ بعضُ الزملاء من العسكريين غُلُوِّى فى ذلك، فكنت أقول لهم: إن القانون بمثابة (الضبط والربط)عندهم، لا يستقيم الأمر إلا بالحرص عليه، وإن الكون ذاته فى مظاهره المختلفة لا غناء له عن قوانينه ونواميسه.
ولَكَم جادلونى: هل أعتبر نفسى فى الحكم سياسيًّا أم قاضيًا؟ فكنت أرد عليهم بأن خير حكومة هى حكومة القضاء، وأن خير سياسة للحكم هى التى تقوم على الموازنة العادلة بين حق الحاكم وحق المحكوم».
للأسف هذا المنهج يسيطر ويسطو على عقولنا من يومها، وهو استخدام التشريع والقوانين لخدمة أهداف سياسية تفسد روح التشريع وتلغِّم القوانين بالمصالح الآنيّة والوقتية والقصيرة، ثم لا تلغى هذه القوانين وتتراكم وتعطِّن حياتنا بتكدسها وتكلُّسها.
لا تؤلِّفوا قوانين جديدة، بل ألْغُوا نصف القوانين اللى عندنا، وتأكدوا أن أى حاجة فى مصلحة البلد، سواء سياسة أو اقتصادا أو أمنا أو سِلما اجتماعيا أو تعايشا أهليا، سنجدها فى القوانين الموجودة.
إن مسح القوانين، لا كتابَتَها هو حاجة مصر الآن.