فى فصل دراسى متواضع فى مدرسة حكومية بإحدى محافظات الصعيد طلبوا من تلاميذ الابتدائى أن يرفعوا أكياس الكسوة التى تفضلت إحدى الدول العربية بمنحها لفقراء المصريين، وتم التقاط الصورة التى تداولتها بعض الصحف تحت عنوان فرحة مصرية غامرة بهدية الكسوة، وبين هذه الصور صورة أخرى لصف من البنات الصغيرات يقفن فى طابور طويل تحت أشعة الشمس الحارقة ليقمن باستلام شنطة الكسوة فى مشهد شديد القسوة لا يتخيل المرء أن أناسا يتمتعون بأدنى قدر من الكرامة والرحمة والإنسانية يمكنهم أن يفعلوا هذا بزهور المستقبل.
أما الأكثر حقارة وانحطاطا فهو تلك الصور التى انتشرت لنفس أكياس الكسوة وعليها استيكرات بأسماء بعض الشخصيات المحلية والسياسيين الذين تخلوا عن احترامهم لأنفسهم وقاموا بالاستيلاء على أعداد كبيرة من أكياس منحة الملابس التى قدمتها الدولة العربية الشقيقة للفقراء، وأعادوا توزيعها مع وضع أسمائهم عليها، كنوع منحط من التسويق الشخصى والسياسى بأموال الهبات وعطايا الفقراء !
حين رأيت هذه الصور لم أصدق لأول وهلة، ولذلك أسرعت بتحرى الأمر من خلال أشخاص ثقات بعدد من المحافظات، ففوجئت أن الأمر قد تكرر بنفس الطريقة وأن الوجوه الكريهة من النظام الأسبق وبعض الوجوه السياسية الجديدة والمقربة من السلطة فى مصر قد تورطت فى هذه الفضيحة.
ليس هناك اعتراض على أن يقوم أى شخص بالتسويق لنفسه بالطريقة التى يرغب فيها وتعبر عنه، حتى لو كانت طرقا وضيعة كصاحبها، ولكن حين يتم الاستيلاء على أموال الصدقات والهبات واستغلالها لهذا الغرض فهذه جريمة مزدوجة تعبر عن انحطاط غير مسبوق.
أما السادة المدرسين ومربى الأجيال الذين سمحت لهم إنسانيتهم المشوهة بأن يفعلوا هذا بأطفال لم يتجاوزوا العاشرة من عمرهم فى طابور الذل والإهانة، فإنهم مجرمون لا يستحقون شرف التدريس ولا حمل أمانة المعلم.
هناك دول تربى أبناءها على التعفف والكرامة الإنسانية، وإذا تعاملت مع الفقراء لم تهنهم ولم تتاجر بهم، لا لصالح النظام الحاكم ولا لصالح أشخاص، إن استغلال البشر كوسيلة للتسويق اعتمادا على فقرهم وحاجتهم جريمة لا تغتفر، أما استغلال الأطفال فهو جريمة أشد وأنكى يجب أن تنتفض لها المنظمات الحقوقية المعنية بالدفاع عن حقوق الطفل، لما لتلك المشاهد والممارسات من آثار سلبية شديدة الخطورة على نفسية هؤلاء الأطفال.
هناك ثلة من المتجاوزين لكل الأعراف الأخلاقية والإنسانية يعودون بمصر إلى الوراء، ويصرون على معاملة هذ الشعب كأفواه جائعة يتاجرون بها ويرتزقون من خلالها ويبنون مجدهم الشخصى على كرامة الفقراء والبسطاء.
كنا نعيب على من يقدمون رشاوى اجتماعية للفقراء والمحتاجين لحصد أصواتهم فى الانتخابات، ولكننا اليوم أمام نموذج أشد وضاعة وتدنيا صنعه هؤلاء، إن واجب الإعلام اليوم فضح هؤلاء وتعريتهم حى يدركوا أن المتاجرة بفقر المصريين وآلامهم لن يسمح بها أحد.
قد يرى البعض أن ما حدث أمر بسيط لا يستحق الإدانة، ولكن من يعرفون معنى الكرامة الإنسانية وخطورة ما حدث على تكوين ونفسية الأطفال سيدركون أننا أمام جريمة تستحق العقاب.