كما توقعت قبل أسابيع قليلة فى هذه المساحة أن قرار مقاطعة الدراما التركية الذى صدَّعَنا به كثيرا دعاة الوطنية والفضيلة الثورية سوف يسقط ويصبح مثارا للسخرية، فإننى -أعترف لكم- لم أتصور أن يتم التراجع عنه بتلك السرعة. كان عدد من الفضائيات المصرية قد تَحمَّس للمقاطعة، وصدَّر للرأى العام كذبا أنهم سوف يتحملون خسائر مالية إلا أن واجبهم الوطنى يحتم عليهم خوض المعركة. ولم يكن ذلك صحيحًا، كل ما هنالك أن اتفاقهم مع شركات التوزيع لعرض تلك المسلسلات لم يحِن بعد، وعندما جاء الوقت عاد التركى إلى صدارة المشهد الدرامى.
رغبات المشاهدين تتحول فى نهاية الأمر إلى قوة اقتصادية عن طريق زيادة حجم الإعلانات قبل وبعد وفى أثناء المسلسل الذى يتمتع بدرجة كثافة مشاهدة عالية، الكل كان يتشدق بأن القرار موجَّه إلى رجب الطيب أردوغان بسبب تصريحاته المعادية لثورة 30 يونيو، وعندما أعادوا بث المسلسلات قالوا إن تصريحات أردوغان خفّت حدتها، أى أنهم مصرون على أن يرتدى قرار التراجع أيضًا حُلة وطنية.
ما علاقة أردوغان بلميس وكنزى وفاطمة ومهند؟ بل إن الرجل صرَّح بأنه يكره مسلسل «حريم السلطان»، ولو كان الأمر بيده لصادره بحجة أنه يشوه تاريخ تركيا.
قرار المقاطعة تحمسوا له فى لحظة زمنية لأن المصالح تتصالح، وكان الهدف هو إنعاش شركات إنتاج تليفزيونية مصرية، اكتشفت أن هناك بديلًا قويًّا يُقبِل عليه المشاهد المصرى، ووجدنا نقابة السينمائيين تتورط وتُصدِر بيانًا تحذّر فيه من التعاطى مع الأعمال التركية، وتَكرَّر الأمر أيضا من خلال جبهة «الدفاع عن حرية الإبداع»، الجبهة التى تدعو إلى الحرية قررت فى لحظة أن ترتدى زى الديكتاتور وتدعو إلى المصادرة، لأن من بين رموزها مَن هم أصحاب شركات إنتاج ووجدوا أن مكاسبهم تتناقص فألبسوا القرار -كالعادة- غطاءً سياسيًّا، وكانت جمعية «كُتَّاب الدراما العرب» التى يرأسها محفوظ عبد الرحمن قد وجهت ضربة استباقية، وطالبوا حتى قبل تصريحات أردوغان بالمقاطعة. أغلب مؤلفى الدراما يعانون البطالة، لأن بعضهم لم يطوِّر أدواته فأصبحوا خارج الزمن، وتصوروا أن منع البديل سوف يزيد الطلب عليهم.
وتعددت المزايدات هنا وهناك، مثل تصريح الراقصة نجوى فؤاد باعتذارها عن عدم السفر إلى إسبانيا لتكريمها فى أحد مهرجانات الرقص الشرقى بعد أن علمت أن هناك نية لوجود راقصات من تركيا.
سلاح المقاطعة بات يُستخدم هذه الأيام بإسراف شديد وعشوائية مفرطة، بل وصارت تلاحق كثيرين نظرات واتهامات وتلميحات لكل من لا يرفعه كأنه يرتكب خيانة وطنية. سبق مثلا أن أعلنت المطربة شيرين مؤخرا أنها لا يمكن أن تشارك فى أى حفل غنائى يُقام فى الدوحة، رغم أنها تعلم أن لها جمهورًا ينتظرها ويحبها هناك، وذلك احتجاجًا على سياسة قطر تجاه ثورة 30 يونيو، وأيضا ردًّا على موقف قناة «الجزيرة».
مصر مختلفة سياسيهًا مع دولة قطر، كما أن هناك غضبًا موجَّهًا ضد قناة «الجزيرة» لافتقارها إلى الحياد، ورغم ذلك فإن الشعوب ينبغى أن تظل بعيدة تمامًا عن تلك الصراعات التى بطبعها ليست ثابتة. كان يكفى شيرين أن تقاطع الظهور فى قناة «الجزيرة»، لكن لا تخاصم شعبًا.
المقاطعة الثقافية والاقتصادية والسياسية، هى فقط مع عدوِّنا الاستراتيجى إسرائيل، نعم، لا يمكن أن يشارك فنان عربى فى مهرجان إسرائيلى ولا دعوة فنان إسرائيلى إلى أى تظاهرة عربية.
هذا هو المبدأ لأننا نتعامل مع عدو دائم اغتصب أراضينا، ولكن تركيا ليست عدوًّا استراتيجيًّا لمصر ولا للدول العربية لنرفع فى وجهه سلاح المقاطعة.
أتذكر الراحل سعد الدين وهبة، كم كان يخوض معارك مع الدولة حتى يعرض أفلاما إيرانية فى مهرجان القاهرة السينمائى الدولى، كان مبارك يرى فى إيران عدونا الدائم، ولكن وهبة كان يقاتل لكى تجد الأفلام الإيرانية التى صارت هى فاكهة المهرجانات فى العالم كله مساحة فى مهرجان القاهرة، وناله كثير من الهجوم، بل وتعرض فى فى عام 1995 للمقاطعة والتشهير من مؤسسة «أخبار اليوم» فى وقت لم تكُن فيه مصر تملك هذا الزخم من الجرائد اليومية والفضائيات.
مقاطعة الدراما التركية هى سلاح البليد، ومع الأسف أغلب أعمالنا الدرامية خارج خريطة رمضان هى عنوان البلادة.