قديمًا في أثينا حيث نشأ ما يُعرف بـ«الديمقراطية الأثينية»، كان من ضمن النظام السياسي إجراء ما يُطلق عليه (Ostracism)، وهذا الإجراء لم يكن سوى آلية تُمكّن «الشعب الأثيني» من التصويت على اختيار شخص أو مجموعة من الأشخاص، يشكلون تهديدًا لـ«دولة أثينا» أو «الوطن الأثيني» ليتم نفيهم خارج أثينا لمدة عشر سنوات، تنفيذاً لإرادة الشعب ودون أي محاكمة ولا أي رغبة في البحث عن «العدالة» لهؤلاء. بالطبع هذا ليس سوى مثال فجّ على كيف يمكن استخدام حق التصويت «وحده» في عكس اتجاه حقوق وحريات كل فرد، وأن هذا كان نهج المجتمعات البدائية في طريقها للبحث عن نظام سياسي، قبل أن تنضج وتتعلم أن الجريمة لا تفيد، لتبدأ في سلوك طُرُقٍ أكثر رشادة ونضجًا في اتجاهات أكثر حرية وعدلاً.
هذه الصورة ليست بعيدة كثيرًا عما يجري حولنا الآن ولا عن تصورات المجتمع لمعاني التصويت أو «الإرادة الشعبية»، وربما لو دقّقت النظر قليلاً لوجدت أن المطرب علي الحجار في أغنيته البائسة «إحنا شعب وإنتوا شعب» عندما طلب من «الشعب الآخر» أن «يبعد بعيد عن أرضنا»، ومن قبله الشيخ محمد حسين يعقوب، حين طلب في خطبته البائسة ممن لا تعجبهم نتيجة استفتاء مارس ٢٠١١ بأن «يهاجروا إلى كندا» ستجد أن الحالتين تلبّستهما نفس الروح التي تلبّست فلاسفة الإغريق حين ابتكروا حق «التصويت على نفي الغير».
بعد وقت ليس بالطويل، تجاوزت أثينا هذا الإجراء، مثلها مثل كثير من المجتمعات البشرية التي تجاوزت مرحلة محاولات نفي «الآخر»، لا لشيء سوى لأنهم نضجوا بما يكفي، ليتعلموا أن تلك المعارك مصيرها الفشل أو إنتاج مجتمعات مشوهة وأن من الأجدر بهم أن يجدوا وسيلة ليعيشوا سويًا بدلاً من أن يموتوا فرادى، لكن حماقة السلطوي يمكن أن تصور له أن معارك حمقاء كتلك يمكن أن توصل أثينا لأستاذية العالم أو أن تجعل من أثينا (أم الدنيا) لأن تصير «قد الدنيا» أيضًا، لذلك يتحمس لها ويبدي استعدادًا دائمًا لخوض تلك المعارك بكل ثقة وإيمان.
اليوم وبعد مرور أكثر من أربعة أشهر على عزل مرسي، وصلت جرائم أجهزة الدولة، وعلى رأسها الداخلية والجيش، إلى حد غير مسبوق، فحتى بعد «مذبحة» فض اعتصام رابعة، لا يكاد يمر أسبوع دون أن أسمع عن شخص أعرفه قد تعرض هو أو أحد معارفه للاعتقال، وبصورة لم أصادفها من قبل حتى في عصر ديكتاتور مخضرم كمبارك، فضلًا عن مجموعة من الحماقات التي ترتكبها الدولة الأمنية، كالفزع من طالبة أو لاعب كونغ فو رفعا شعار رابعة. يحدث هذا كله باسم «الإرادة الشعبية» وتحقيق رغبة «الجماهير» في عودة الأمن والاستقرار، وهو للعجب نفس المبرر الذي ارتكب تحته الإخوان كل جرائمهم باسم الاستجابة للإرادة الشعبية، وتلك الأيام نداولها بين الحمقى.
هناك أكثر من طريقة لرؤية الوضع المأزوم حاليًا، منها أن ترى مثلاً أننا قد فقدنا الآلية الديمقراطية بانقلاب عسكري قضى على الحريات وإغلاق المجال السياسي، وبالتالي فالطريق أمامنا هو خوض المعركة من أجل «عودة الشرعية»، ويمكنك أن تنظر بصورة أكثر جذرية، لتعرف أن المشكلة تكمن أساسًا في قطاع واسع من الجمهور، رغم قدرته واستعداده على المشاركة في الانتفاض إلا أنه لا يحمل جوهر قيم العدالة والحرية، لذلك فهو ينظر للمجال العام على أنه مجال «حرب»، يخضع فيه المهزوم لقواعد وجرائم المنتصر، لذلك فإن مجرد تغير مزاجه من تأييد واسع للتيارات الإسلامية إلى رفضها والتوجس منها، كفيل بصمته تجاه قمعهم والتنكيل بهم بدلاً من خصومهم، وأن يذهبوا بدلاً منا إلى المشانق.
إذا اعترفنا فعلاً بأن المعسكر الذي يبحث عن حقوق وحريات «الأفراد» لا يحظى بدعم واسع في المجتمع، وأن القطاع الأوسع مازال يحب لعبة الحرب التي فيها مهزوم يجب «نفيه» تنفيذًا لإرادة الشعب، فإننا على الأرجح سنتحمل حماقة ونشوة المنتصرين الجدد، كما تحمّلنا حماقة الذين من قبلهم.
وسنخوض هذا الطريق الذي بدأ بـ«تسلم الأيادي» ومرورًا بـ«إلا السيسي» حتى وصل لمحطة «الله عليك يا سيسي.. بكرة تكون رئيسي»، وهو ما يُنبئ بحملة انتخابية للجنرال الجديد على نفس القدر من العمق والعقلانية، وربما يصبح شعارها «انتخبوا السيسي النيسي كونيسي»، وسيحدث هذا كله تنفيذًا للإرادة الشعبية التي سيرضخ لها الزعيم.
الخبر الجيد أن لعبة الإرادة الشعبية تلك يمكن أن تنقلب في أي لحظة على من يلعب بها، فمازلت أذكر خطاب مبارك الثاني الذي حاز تعاطف الجماهير، ليجعل ممن بقوا في الميدان قلة خارجة على إرادة الجماهير الذين كانوا بالفعل يميلون في تلك اللحظة للتهدئة و«الاستقرار»، لكن صبيحة اليوم التالي ومع مشهد دخول الجمل (الذي يجسد حماقة السلطوي في البحث عن نصر حاسم) للميدان، كان ذلك كفيلاً بقلب المشهد مرة أخرى، لذلك فإن اختياري الآن، كما كان وقتها، هو رفض تلك الإرادة الشعبية مع الواقفين في نفس الموقف، ننظر بعيون تملؤها أمل في النصر وقلوب تشعر باقتراب الهزيمة.
ولأنه لا ثورة دون جماهير، فليس علينا سوى أن نعلن موقفنا وأن ننتظر أن يدرك الناس مرة أخرى أنهم قد خُدعوا حين يشاهدون لحظة وصول الجمل.. أي جمل.