دخل عبد الوهاب مسرعًا إلى الاستوديو حيث تُجرى عادة بروفات الأغانى، بعد أن تناهى إليه صوت أم كلثوم فى نغمة جديدة مختلفة لم يتبين مَن ملحِّنها على وجه الدقة. كان موقنا أنه ليس السنباطى ولا زكريا ولا القصبجى، وتنبه أنه كمال الطويل فأثنى على لحنه «غريبٌ على بابِ الرجاءِ»، وبادله الطويل بالشكر مؤكدا أنه الأستاذ الكبير، واستأذن عبد الوهاب فى الانصراف فطلب منه الطويل أن يستكمل البروفة، وفى تلك اللحظة شعر الطويل بحذاء أم كلثوم تحت المائدة يضرب بقوة وإصرار فى حذائه، ولم يفهم الطويل سر تلك الضربات الغاضبة، وبمجرد أن غادر عبد الوهاب الاستوديو قالت له أم كلثوم «اللحن اتشمّ يا كمال»، فهى ظلت حتى آخِر أيامها تحمل مقوّمات الفلاحة ابنة قرية طماى الزهايرة بالدقهلية التى تؤمن بالعين والحسد، وتعبير «اتشم» قاهريا يساوى «أخد عين».
كانت قصيدة «غريبٌ على بابِ الرجاءِ» ضمن أوبريت «رابعة العدوية» الذى قدمته أم كلثوم للإذاعة فى نهاية الخمسينيات، من شِعر طاهر أبو فاشا، وشارك بالتلحين مع الطويل كل من رياض السنباطى ومحمد الموجى، واشتهر من بين أغنياته لحنا الموجى «أوقدوا الشموس» و«حانةُ الأقدار»، ومن إخراج عثمان أباظة.
مرت أسابيع قليلة على تلك الواقعة، وقبل المونتاج النهائى طلب الطويل من أم كلثوم أن تحذف « غريبٌ على بابِ الرجاءِ»، وأبقت فقط على لحنه «لِغيرِكَ ما مَدَدْتُ يدا»، حاولت أم كلثوم ثنيه مؤكدة أن اللحن رائع، ولكن كمال أصرّ، وهنا قالت له أم كلثوم «مش قلت لك يا كمال اللحن اتشمّ؟».
تذكرتُ قصة هذا اللحن عندما استمعت إليه قبل بضعة أيام فى إذاعة الأغانى فى أثناء الاحتفال برأس السنة الهجرية، تساءلت: هل صحيح أنها عين عبد الوهاب التى ضربت اللحن فى مقتل، أم أنه توجُّس كمال الطويل وخوفه الدائم من أن لا يحقِّق اللحن نجاحا مع الناس، إذ كان الطويل فى أغلب ألحانه يستشعر قبل تسجيلها أنه ينقصها شىء ما، ولولا مثلا أن عبد الحليم حافظ كانت لديه ذاكرة فولاذية ويحفظ كل ومضات الطويل فى أثناء البروفات، وعندما يتراجع أو يقول له إنه لا يتذكر ما قدمه بالأمس، ويفكر فى البدء مجددا، يشرع حليم فى غناء اللحن حتى يستحسنه الطويل فيرى النور.
لا أتصور أن عبد الوهاب لديه عين حاقدة، إلا أنه كان يغار من نجاح الآخَرين ويتمنى أن يستحوذ هو على كل النجاح، ولكن قبل أن نسترسل فى الحديث عن عين عبد الوهاب،دعونا نعرف كيف وافقت الإذاعة المصرية على إذاعة لحن مرفوض من أم كلثوم والطويل. الحكاية أنه بعد رحيل أم كلثوم عام 75 وفى مطلع الثمانينيات وصلت «غريبٌ على بابِ الرجاءِ» إلى الإذاعة الإسرائيلية، ولا تتعجب، فهناك «مافيا» استولت على تراثنا الإذاعى والتليفزيونى وباعته لإسرائيل، ربما عن طريق شركاء فى الأردن، وكان التسجيل الذى بثّته إذاعة إسرائيل الناطقة بالعربية يتضمن فى البداية عن طريق الميكساج تصفيقًا، كأن أم كلثوم قدمت القصيدة فى حفل، وبدأ المصريون
يستمعون إليه ويستحسنونه وطلبت شركة «صوت القاهرة» التابعة لوزارة الإعلام التى تحتكر توزيع كل أغنيات أم كلثوم، من كمال الطويل، السماح بطبعه على كاسيت، وصار متداوَلًا من وقتها، وسألت الأستاذ كمال هل شعر بندم بعد مرور 30 عامًا على حبس اللحن، أجابنى أن قناعته كانت ولا تزال أنه أقلّ بكثير من طموحه الموسيقى، سألته عن عبد الوهاب، أجابنى:
«عندما رأيت الأستاذ فى الاستوديو تَذكَّرْت قصة طريفة حدثت لى معه فى معهد الموسيقى العربية قبلها بنحو 15 عامًا، عندما كنت طالبًا بالمعهد، كان عبد الوهاب يُجرِى بروفة أغنية ليلى مراد (اتمخطرى يا خيل)، وتسللت لأحضرها، حتى أرى الأستاذ فى أثناء ولادة اللحن، وجلست فى نهاية الصفّ حتى لا يلمحنى، إلا أنه رغم ضعف بصره قال (فيه جاسوس هنا، يتفضل يخرج من غير مطرود)، وكان موقفا مُحرِجًا، ليس فقط بسبب طردى، ولكن فى صفة جاسوس التى ألحقها بى، ومن بعدها قررت أننى سوف أردُّها له يومًا، واعتبرت حضوره بروفتى لأم كلثوم تعويضًا عن تلك الواقعة، واعتذارًا عن صفة الجاسوس، ولكن أم كلثوم ظلّت تعتقد حتى رحيلها أن عبد الوهاب شم اللحن»!