لقد أظهرت السنون الماضية مدى ضعف القوى السياسية، الممثلة فى أحزاب تقليدية.. من ضمن ما تم طرحه من أسباب لشرح هذه الظاهرة عملية تحجيم تلك الأحزاب، وضمان تبعيتها خلال عقود حكم مبارك. لكن هناك سببا إضافيا، ربما لا يقل أهمية، وهو أن هذه الأحزاب لم تمثل مصالح اقتصادية- أو قطاعات اجتماعية عمالية أو زراعية أو رأسمالية- إلا ربما نظرياً وعلى الورق ودون ولاء كاف من قبل أى فئة. أما الصراع الاقتصادى الحق فدار خارج نطاق السياسة التقليدية، وعامة فى الخفاء، وظهرت نتائجه فقط عندما احتد العراك بين فئات النخبة الحاكمة- مثلا بين بعض رجال الأعمال و«الدولة العميقة»- فى نهاية حقبة مبارك.
أما الصراع السياسى العلنى الملحوظ الذى ساد الفترة الماضية فقد تعلق أساسا بمسألة الهوية، ودار بين أحزاب تيار الإسلام السياسى وأحزاب سُميت «مدنية». وهذا هو السبب الأساسى الذى أدى لصعوبة إيجاد أى أرضية مشتركة، ومن ثم الوصول لتوافق وحل الصراعات السياسية سلميا.. لماذا؟ لأن أطراف الصراع ذى الأسس الاقتصادية عامةً ما تميل إلى الأخذ فى الاعتبار إمكانية التوافق فى سبيل صيانة المصلحة العامة، على عكس الحال عندما يتعلق الصراع بمسائل الهوية الوجودية.. مثال مبسط: عندما يحتد الصراع بين العمال والمالك لمصنع ما، هناك عامة مساحة للأخذ والعطاء، لأن صاحب المصنع لا يريد خسارة العمال الذين اكتسبوا خبرات عبر أعوام العمل عنده، والعمال فى المقابل يخشون إفلاس المصنع وأخطار الطرد والبطالة، لذلك فهناك مساحة واسعة نسبيا للحلول الوسط والتوافق.. فى المقابل، تصور كيف سيكون الحال إذا كان صاحب المصنع أتى من الهند ويريد فرض طقوس هندوسية على العمال المسلمين؟ أعتقد أنه من الواضح أن مساحة التوافق ستكون أقل بكثير فى هذه الحالة (التى تشبه بالطبع صراعات التكفير والتخوين التى شهدتها مصر مؤخرا).
هناك أساس إضافى للسهولة النسبية لإمكانية التوافق فى المسائل الاقتصادية، ويتعلق بانتشار التعليم، ومن ثم تنامى إمكانية الحركة الاجتماعية.. لقد اعتقد كارل ماركس مثلاً أن الصراع بين الطبقات الاجتماعية- المحتكرة والكادحة- لا يمكن التوافق عليه، بل إنه يحتد مع الزمن، ولذلك توقع أن ثورة العمال ستقوم أولاً فى أكثر الدول الصناعية تقدماً آنذاك، مثل بريطانيا. لكن الذى حدث كان عكس ذلك، ما حدث هو، كما أشار أرنست جلنر فى كتابه عن «القومية»، أن عملية انتشار التعليم- ليصبح فى متناول قطاعات أوسع من المجتمع- أدت لتسهيل الحركة الاجتماعية من أسفل إلى أعلى.. لذلك تطلع الكثير من أعضاء الطبقات «الكادحة» لتعليم أولادهم، حتى يلتحقوا بهذه الحركة إلى أعلى بدلاً من القيام بالثورة.. ثم إن انتشار التعليم أوجد لغة فكرية مشتركة بين طبقات المجتمع المختلفة، مما نتج عنه إحساس بالانتماء ومصير قومى مشترك.. الصراع لا يتلاشى تماما، لكن فى ظل الانفتاح السياسى يدار الصراع الاقتصادى سلميا، من خلال أحزاب سياسية ممثلة للمصالح المختلفة، ومن ثم يمكن العمل على اكتساب الحقوق دون الحاجة للعنف العارم.
تبقى فى النهاية الانقسامات التى لا يمكن تجاوزها هكذا، وهى تتعلق بمسألة الهوية، فمثلاً فى حالة وجود أقليات قومية لا يمكن استيعابها اجتماعيا، تتفاقم الصراعات العنيفة وينقسم البلد الواحد.. لحسن الحظ لا توجد فى مصر، من حيث المبدأ، أقليات قومية بالمعنى التقليدى. لكن، كما أشرت من قبل، فإن طريقة تعامل قوى الإسلام السياسى، خلال فترة سيطرتها، كانت منطلقة عمليا من اعتبار القوى الأخرى ممثلة لأقليات قومية، أى مجاميع ربما يمكن منحها حقوقا محدودة فيما يخص طريقة حياة أعضائها، لكن ليس من حقها المشاركة فى صياغة الهوية العامة للدولة والمجتمع.. بل إن الخوف من خطر الانقسام والعراك الأهلى الناتج عن ذلك النهج كان ضمن أهم أسباب رد الفعل العنيف تجاه حكم الإخوان من قبل قطاعات واسعة من المجتمع والدولة.
أما عن الحقبة المقبلة.. فيتضح فى سياق ما سبق- إذا أخذنا تداعياته جديا، وإذا أردنا تفادى التصدعات والانقسامات القاتلة- أنه لا بديل عن ظهور قوى سياسية ممثلة فعلاً بفاعلية لمصالح وفئات اقتصادية، وأن يكون الصراع بينها مبنياً على هذا الأساس.. وعلى المدى الطويل، الاهتمام بالتعليم، حتى يمكن تدعيم الحركة الاجتماعية والإحساس بالانتماء فى مجتمع منظم يسوده تكافؤ الفرص والإحساس بالمصير المشترك، فيبدو من الواضح أن هذه المسائل صارت وجودية، وليست مهمة فقط من الناحية العملية المتعلقة بالتنمية.