لم تصل إلينا الموسيقى الفرعونية، ولا تلك الموسيقى التى عزفها أسلافنا الأقباط فى مواجهة القهر الرومانى، ولا حتى الموسيقى التى عزفها المصريون والفاتحون العرب بعد فتح مصر.
لكننا نعرف جيدا أن الموسيقى كانت فرضا لا يغيب عن روح الشعب المصرى منذ عرفها.
منذ قررت الأم المصرية أن تهدهد طفلها فى الفراش، منذ تحايل البنَّاء المصرى على آلام عمله بالغناء، عندما روج البائع المصرى لسلعته بنداء مسجوع يليق بها، نقل سيد درويش بعض مذاقها لكنه لم يتمّه، وتعرفنا على المذاق الباقى عبر أصوات مختلفة، من صوت محمد منير الذى يشبه «الكركديه الأسوانى»، وسبقه محمد حمام الذى يشبه «التمر هندى»، وصولا إلى صوت فيروز كراوية الذى يشبه «العرقسوس»، ذلك النبات المصرى الأصيل الذى يستخرج من جذور الشجرة، وأكثر حلاوة من السكر العادى، تماما مثل شخصية صوتها، ولصوت المطربين الحقيقيين فقط شخصية تتذوقها الآذان. وبما أن لكل امرؤ نصيبا من اسمه، ولأنها سمية مطربة كبيرة، نجحت منذ طفولتها فى أن تشكل روحها تربة خصبة لموسيقى الرحبانية، روتها تلك الأصول البورسعيدية الأبيّة لتشكل صوتا مصريا أصيلا يشبه تربة ذلك الوطن، والمزيج المبهر لشعبه عبر التاريخ.
وبروح تشبه تلك التى قهرت الغزاة على خط القنال، خاضت فيروز كراوية معركتها ضد الغناء التجارى وعالمه متشعب المصالح، الذى لن يعترف أبدا بصوت كل مميزاته أنه يشبه آلة «الهارب» الفرعونية.
فقط لأن روحها تتسع كلما غنت، ولأن لصوتها دفئا يشبه تلك الليالى العائلية فى بيوت الوطن، أصرت على مشروعها وأنتجت ألبومها الأول «بره منى»، لتغنى للقهوة وللوشوش ولذلك البطل المثالى.
غنت فيروز لتسقى أرواحا، ارتوى أسلافها على يد بائع «عرقسوس» قديم ظهيرة يوم حار فى قاهرة المعز، غنت بروح مقاتل اعتنق الفن رغم أنه يخاف من «حاجة واحدة» كما شدت فى ألبومها الوحيد.
ومع انشغالها بتسجيل ألبومها الجديد كانت تهمس دون انقطاع أن «السمكة يمكن أن تفسد من داخلها دون أن يفسد رأسها»، كانت تعلم جيدا أن تلك الروح التى وهبها الله لها ليست ملكا لأحد، سوى لذلك المطرب القديم الذى قضى نحبه فى أزقة مدينة ساحلية أو قرية ريفية على أمل أن يسعد رجل هزمه الحزن، أو يروى قصة بطل لم تهزمه غزوات التتار.