فؤاد المهندس ملك من ملوك التسلية.
لكنها تسلية مختلفة.. لست من المغرمين بالزمن الجميل ولا بأن القديم عظيم، دائما.
لكنى أحاول فقط تأمل: لماذا تبدو التسلية وفنونها الآن عابرة، وصناعها أبناء لحظة لا يخرجون عنها؟
لماذا يبدو نجوم التسلية الآن ثقلاء الظل بعدم تحرر المجتمع من خوفه؟ لماذا دفن نجوم الكوميديا رؤوسهم ولم يروا من الثورة غير أنها قاطعة الأرزاق.. ومن الشعب الواقف فى الميدان باحثا عن خفته إلا سدا فى وجه السبوبة.
لماذا تخفت وجوه هنيدى وموجاته، بينما يمكن أن يحضر وجه فؤاد المهندس.. مثلا.
لماذا تطبع دكاكين الهدايا صور ملوك لتسلية القدامى، بينما لا أحد من نجوم هذه الأيام يشغل مساحة ولو صغيرة؟
هل هو حنين الطفولة؟
ربما.
لكن هذا ليس كل شىء.
هناك شىء مفقود فى فنون التسلية هذه الأيام.
هل هى الروح التى كانت تجعل الفنان ينطلق بلا فرامل.. يترك جزءًا من نفسه فى العمل.. يتركها باستمتاع العشاق والمغرمين؟
هذه المتعة مفقودة الآن وسط حساب كل شىء بالمنافع القريبة: الفلوس والشهرة.
لم يكن نجوم الأجيال القديمة زهّادًا فى المال والشهرة.. لكنها لم تكن كل شىء.
نجوم هذه الأيام بخلاء.. أو أرواحهم فارغة.
لا أحب التعميم.
أتكلم فقط عن قانون عام.
له استثناءات ويحول كل شىء إلى «سبوبة»، أى سبب لدخول أموال بغض النظر عن علاقتك بما تفعل.
الفن ليس سبوبة دائما.
لا بد من فرصة تمنح فيها ما تفعله جزءًا منك.. من نفسك.. من روحك.. وهذا سر بقاء النجوم القديمة.. وانتشار صورهم فى البيوت والمطاعم والمقاهى.. إنه ليس مجرد حنين إلى زمن فات.. وإنما هروب من اللحظة الحالية.. وقوانينها.
هروب غير واعٍ مثل الذى حدث لى عندما تذكرت فؤاد المهندس وسط طوفان رمضان التليفزيونى.
رحل فؤاد المهندس تدريجيا، ذاب وحده فى سرير الخديو الذى كان اشتراه من المزاد ووضعه فى قلب حجرة نوم واسعة فى الزمالك، تحيط به على الجدران 22 ساعة حائط. حكايات كثيرة عن رجل رفض الطريق التى رسمها له ذووه: أراد مرة تربية أسد فى منزله بعدما خاف من أسد قفز إلى موقع التصوير. هو أيضا ذلك العجوز الثمانينى الذى لم يخجل من إطلاق صيحات الإعجاب بطريقته الشغوف بالجمال والحياة: «أوه نانسى عجرم. إنها أجمل امرأة فى العالم». عندما ظهر فى أواخر الخمسينيات من القرن المنصرم، لم يكن فؤاد المهندس مشروعا كوميديا بملامح مميزة. إذ لم يكن يملك سذاجة إسماعيل ياسين ولا ريفيّته.. المهندس هو ابن منطقة العباسية، أى ملعب برجوازية ما بعد الحرب العالمية الثانية. تربّى فى منزل مسحور باللغة العربية وثقافتها، فوالده خرّيج جامعة، وعميد كلية دار العلوم. كان أمل العائلة أن يكون فؤاد امتدادا للأب خفيف الظل، على الرغم من أنه حارس من حرّاس اللغة الرصينة. لكن فؤاد سار عكس التيار، معلنا تمرّده باكرا. وعلى رغم أنه تخرج فى كلية التجارة عام 1948، اختار التمثيل والمسرح شغفًا دائما لم تطفئه العقبات التى واجهها فى مشواره. «أفندى» يختلف طبعا عن إسماعيل ياسين الحالم بارتداء بذلة الأفندية. مفارقات المهندس الكوميدية لم تنفجر على غفلة كما فى حال إسماعيل ياسين، بل من إخلاص ونقاء يميّزان أخلاق البرجوازية الصغيرة المحافظة. فؤاد اختفى من الشاشة بعد ظهور عادل إمام وجيله، انسحب إلى عالمه المفضّل: المسرح. ظل يداعب ذكريات كان حلمها الأول مع الرائد المسرحى الكوميدى نجيب الريحانى. إذ قال له يوما: «لا تتبعنى». واستعاد إعجابه الأول بتشارلى شابلن والهولندى غروشو ماركس اللذين تعلّم منهما التعبير بالجسد. بطل بمقاييس قديمة دفعته إلى العودة إلى مكانه الأول، الإذاعة والتواصل اليومى مع الناس: وجاء برنامجه «كلمتين وبس» رسالة يومية وعرفانا للمكان الذى انطلق منه يوم اكتشف موهبته زوج شقيقته بابا شارو فى برنامج للأطفال، ثم عبر شخصية محمود، الزوج الساذج فى «ساعة لقلبك». لم يكن المهندس مجرد كوميدى عابر، بل أكمل نفسه حين جعله عبد المنعم مدبولى يكتشف أن أسلوبه قريب من أسلوب نجيب الريحانى. واكتشف هو أنه لم يخن أحلام العائلة ولا دروس الأب عن العلم والثقافة. وهو أيضا لم يخن قسوة الأم التى لم تتصوّر يوما أن ابنها الذى صرخت فيه للنزول عن خشبة المسرح وهو صغير، ستستهويه اللعبة ويصبح بطلها.. عاشق الساعات التى يزيّن بها حجرة نومه، إنما كان يبحث فى عقاربها عن زمن مفقود!
هذا ماكتبته عن فؤاد المهندس الذى يطل وجهه أحيانا بين الأحداث وعلى وجهه شىء بين العبوس والقهقهة وقلت أعيد الكتابة علّنى أفهم سر الشىء الذى يتركه ملك التسلية ويختفى.