هناك عبارات قالها أو رددها شخصيات، فإذا بها تتحول إلى شعارات على جدران التاريخ ولافتات على أسوار الوجدان العربى، لعل أطرفها وأكثرها غوصًا فى هزل الحقيقة هى عبارة الفنان الراحل يوسف وهبى حينما قال «ما الدنيا إلا مسرح كبير» ولكن المدهش أن جميع المسرحيات المعروضة على خشبة الحياة، بالإضافة إلى أنها مملة فهى مكررة أيضًا. هناك مقولة أخرى للدكتور طه حسين عميد الأدب العربى، التى صارت مثلًا، وهى أن «التعليم حق كالماء والهواء»، لكننا نرى الآن كم تعكر الماء الذى نشربه وكم تلوث الهواء الذى نتنفسه، وصار التعليم فعلًا كالماء العَكِر والهواء الملوث، تتغير الدنيا إذن، لكن تظل هذه العبارات على أهميتها، رغم كل شىء. ومن العبارات الشهيرة للزعيم الراحل سعد زغلول، وهو على فراش الموت، وكان الموت واقفًا على حافة فراشه، فنطق جملة واهنة وهنَ استقبالِ عزرائيل.. قال «مافيش فايدة».
ولم يقل لنا أحد أو حتى حاول أن يفسّر: هل كان يقصد أنه لا فائدة من العلاج والأطباء أم أنه لا فائدة؟.. لن يخرج الاحتلال الإنجليزى من مصر، أو أنه لا فائدة.. لن تتغير أمتنا. ومنذ سنوات كنت أواجه الإحباط الذى يريد البعض أن يصدره لنا طول الوقت باختراع نظريتى الخاصة لمقاومة إحساس سعد زغلول والجملة المنسوبة إليه، نظرية أبشِّر بها أصدقائى المحبطين والحزانى (وفى عز الثورات وتغيير الواقع والانتصار على الاستبداد السياسى والدينى فإننا لا نُحرَم أبدًا من المحبطين الذين يعتقدون أن رسالة حياتهم هى إحباط أهلنا واللى خلفونا).
أشرح موقفى عندما يروننى أعمل وأعمل، بينما الكل يرى أنه لا فائدة حقًّا وصدقًا، اسم هذه النظرية «باعتبار أن أى نظرية لا بد أن يكون لها اسم!» هو «العدمية الإيجابية»، وتتلخص فى أنك حتى لو كنت متأكدًا من أنه لا توجد أى فائدة، لكن لا مانع أن تستمر فى العمل والحياة وربما يكون فى يوم من الأيام هناك فائدة، فالأمر باختصار أنه لو تأكد الإنسان أنه لا توجد فائدة فقد كان يعرف منذ البداية، ومن ثَم لا يغضب أو يعتب أو يصدم ويحبط.
أما إذا ظهرت كالمعجزات أىُّ فائدة من عمله وسعيه فها هو قد عمل ولم يحبس نفسه فى قفص صدره، وربما نجد فى الحديث النبوى الشريف جذورًا لهذا كله حيث قال النبى -صلى الله عليه وسلم-: «إذا قامت القيامة وفى يد أحدكم فسيلة فليغرسْها».. أى أن العطاء والرغبة فى الإصلاح والإعمار والتغيير والتطوير قائمة ومهمة وضرورية حتى لو كانت القيامة ينفخ فى صورها، فما بالك بالدنيا النَّكِدة العَكِرة وقد فرضت علينا أوضاعنا السياسية العَفِنة أن نغيِّرها، كأننا ساعتها نشبه من يضع وردة على كوم قمامة!
وإذا انتقلت من «مافيش فايدة» قولة سعد زغلول، إلى «مش معقول» وهى قولة الرئيس الراحل أنور السادات أو التى نُسبت إليه حين تقدّم قاتله رافعًا بندقيته مندفعًا نحوه، بينما السادات يقف لتحيته، لما اكتشف السادات أن القاتل يريده وأن الرصاص قادم نحوه «لعله رآه» نطق «مش معقول»! ولم نفهم طبعًا: هل كان يقصد بها أنه ليس معقولًا أن يقتله ضابط فى جيشه أو أنه ليس معقولًا أن يموت الآن وهنا، أو ليس معقولًا أن يكون هذا «جزاءه من شعبه»! وإذا حاولت أن تجمع كل المقولات الشهيرة للزعماء الثلاثة، سعد زغلول والسادات وجمال عبد الناصر، وكان الأخير قد اشتهر بمقولة: «ارفع رأسك يا أخى»، إذا جمعنا المقولات الثلاث سأراها على هذا النحو: «ارفع رأسك يا أخى فمش معقول إنه مافيش فايدة».