مرض مصري متكرر، في البداية هي الشعبية الطاغية والإنجازات العظيمة، ثم تتآكل الشعبية بفعل الزمن وتوالي المشاكل المعتادة على رأس الحاكم الذي يتبين تدريجيا أنه مجرد بشر لا يملك العصا السحرية التي ظنها الناس، فتتحول الشعبية العفوية إلى شعبية مصنوعة مفروضة، وتبرز ظاهرة ماسبيرو، وينقسم الشعب في النهاية إلى منافقين وخونة، ثم تأتي النهاية التي عادة ما تكون مروعة على أم رأس مصر.
وبالنتيجة، فإن كل الزعماء الذين أثروا في تاريخ مصر الحديث يمكنني أن ألخص سيرتهم في أربعة كلمات بالتمام والكمال بدايات رائعة...ونهايات مروعة!فتش كيف شئت، محمد علي، فاروق الأول، عبد الناصر، السادات، مبارك.
وإذا أخذت حسابا ختاميا عن عينة زمنية من فجر 23 يوليو 1952 وحتى ليلة 11 فبراير 2011 فانظر كيف كانت مصر في ذلك الفجر، ثم كيف أضحت في تلك الليلة ،النتيجة في كلمة واحدة هي الفشل، الاقتصاد والصحة والتعليم والمرور والمرافق والسكن أضف إلى ذلك الفساد وسحق الإنسان المصري في عيشه وكرامته، نعم لا يخلو الأمر من طفرات عظيمة كالسد العالي أو حرب أكتوبر ، لكن تبقى مصر محتفظة بكل تصميم باتجاهها العام نزولا. ويثور السؤال، وكيف أصبح حالها هكذا وقد توالى عليها ملك مفدى ثم زعيم خالد ثم رئيس مؤمن ثم نسر مصري شق السما؟ السبب هو أنه وفي كل تلك العصور تعطلت دولة القانون وانتهكت الدساتير لتحل محلها دولة العشق والعواطف ودستورها الوحيد هو "حبيبك يبلع لك الزلط"!الزلط الذي لم يتبق غيره لنأكله ، هذا هو تاريخنا مع زعمائنا الذي يتكرر مرارا إلى أن تسقط مصر في حبائل التيارات الدينية، ليس بسبب ميزة ذاتية في تلك التيارات ولكن بسبب فشل من سبقوهم. ولكن لسخرية القدر، وبجلوس تلك التيارات على كراسي الحكم، يقعون بالضبط في ذات الفخ، ثم يسقطون سياسيا وشعبيا، ولذات السبب، عيوبهم الفادحة.وليس مزايا من سبقهم، ليمنحنا الله فرصة ذهبية ثانية في ظل رفض شعبي لتلك التيارات لن يدوم إلا إذا نجحت الدولة المدنية اليوم فيما فشلت فيه بالأمس بتنمية حقيقية، هذا هو التحدي الخطير وإلا فسوف يتآكل الرفض الشعبي لأصحاب الذقون مع توالي المعاناة يوما بعد يوم، وساعتها لن ينفع الحظر بقانون ولا بدستور ولا حتى بحكم محكمة تماما كما كان الوضع في الأيام الأخيرة من دولة مبارك، وإذا ضاعت الفرصة هذه المرة فربما سوف نفقدها إلى الأبد وستنتهي مصر دولة دينية متطرفة فقيرة مزدحمة متخلفة ، وبغير تنمية حقيقية فلن ينقذها من مصيرها المحتوم كل مليارات الإمارات يا دكتور ببلاوي! وفي هذه اللحظات أنظر بعين القلق الشديد على مصر بلدي بسببنا نحن لأننا ننسى دروس التاريخ.
في خمسينيات القرن الماضي هتف المصريون "تسقط الديمقراطية، يعيش جمال عبد الناصر" وفي الستينيات قالوا له قل ما بدا لك، إحنا رجالك، إذهب بنا للنار ونحن وراءك، ولم يتأخر الرجل! وفي جنازته اصيب وزير خارجية الاتحاد السوفييتي بالذهول وهو يرى المصريين ومن خلفهم العرب قاطبة يغرقون في سلسال من المبالغة في اللطم والبكاء والعويل وشق الهدوم وعلق الرجل قائلا" على الشعب المصري أن يتعلم كيف يتحكم في عواطفه"وسلم لي على الديمقراطية ! أما اليوم فبطل الساعة هو الفريق عبد الفتاح السيسي، وحالة الشبق العاطفي الرهيبة المستعدة لطحن كل من يقف أمامها والتي ليست سوى عملية قتل عمد لمستقبل مصر الدولة والمؤسسة يشارك فيها جانب كبير من إعلاميي هذا الجيل ومثقفيه في استنساخ كربوني لما فعله الجيل الذي سبقهم ، بطل ثورة يوليو ..ثم بطل ثورة يونيو لدرجة أن كل القنوات المستقلة انشغلت بسيادة الفريق وكفت عن الحديث عن الديمقراطية ليبدعوا في وصف السيسي، فهو الزعيم، والمخلّص الأعظم ، وهو عبد الناصر زمانه ، بل هو أحمس والدكر الأوحد. هذا ما فعله الإسلاميون تماما مع مرسي ولكن فقط باستخدام المفردات الدينية الشرعية، فهو عمر بن عبد العزيز المخطوف من زمن الخلافة، ومن أحله نزل جبريل لميدان رابعة العدوية، وهو الذي رؤي في المنام يصلي إماما يصلي خلفه نبينا محمد صلي الله عليه وسلم!!وهو من توضع صورته مع الشهداء في قبورهم لإنقاذهم من عذاب القبر!! وهكذا فهو الطبع المصري الواحد وإن اختلفت اللغة،ورغم الصدام إلا إننا كلنا زي بعض ولا أي فرق ! أفيقوا!! وللأسف الشديد، وبقصد أو بدون الله أعلم، يلعب الفريق السيسي على هذا الوتر العاطفي بامتياز، يخاطب العواطف فتتعطل العقول وتسيل الدموع وترتفع الآهات والنهنهة ، ولأنه في النهاية بشر، فلعل جملة "بدايات رائعة ونهايات مروعة" لم يقرأ منها سيادة الفريق سوى نصفها الأول كسابقيه ، ولعل الدور قد جاء عليه في دستور حبيبك يبلع لك الزلط، وماله !!الفارق الوحيد أن هذه المرة فيها قطم رقبة لأن مصر لم تعد تحتمل. اليوم أنا بالفعل مرعوب على مصير هذا البلد منا نحن قبل حكامنا ومتعجب من التناقض الغريب بين الإحساس السريع بالإهانة وتضخم الذات أمام أي خلاف في الرأي ، والذي يقابله الرغبة العارمة في الإنسحاق التام أمام رجل واحد نرجوه أن "يكمّل جميله!!" ، ولعلنا في أمس الحاجة لتفسير علماء النفس لإنقاذنا بعلاج جماعي.
الفريق أول/ عبد الفتاح السيسي القائد العام للقوات المسلحة هو ببساطة الرجل المناسب في المكان المناسب، فهو رجل عسكري فذ أنقذ مصر في لحظة حالكة، وهذا لا يعني أبدا أن نسلم مصر له هدية تسليم مفتاح، لم يسلم الفرنسيون مفاتيح فرنسا لديجول محرر فرنسا، ولم يتسلم تشرتشل المنتصر على النازي الرهيب مفاتيح بريطانيا، ورغم أن مونتجومري سحق روميل ثعلب الصحراء، وعلى أرض مصرن لم يغن له البريطانيون تسلم الأيادي!! بل تركا الحكم وهما أحياء ليتسلمه جيل جديد أما نحن فماذا أقول؟ لعله التخلف، إن بقاء الرجل على رأس الجيش يمثل حماية حقيقية للجيش الوحيد الباقي في المنطقة العربية خلاف جيش إسرائيل، فإذا تولى حكم مصر انشغل عن الجيش بمشاكلها التي هي ليست من تخصصه ، والتي سبق وأن غرق فيها المجلس العسكري السابق لشوشته رغم عضوية السيسي فيه ، وإذا أصبح رئيسا فلن يكون من حقه بنص الدستور القادم تعيين وزير دفاع إلا بموافقة القوات المسلحة، وساعتها قد ينتهي به الحال تماما كما انتهى بمرسي على يد وزير دفاع يريد إفساح الطريق للإخوان المسلمين كطنطاوي!! فكروا ، من الحماقة أن نقول أننا لا نريد غيره، بل على العكس، نحن نريد كثيرين غيره من أمثاله في وطنيته وشجاعته ويختلفون عنه في التخصص لكي تقوم مصر، ومصر تمتليء بهم ، والحمد لله أن وجدنا واحدا للجيش، أما أن أن يقال أنه هو " الدكر" الوحيد في مصر، فهذه إهانة لمصر لا أقبلها. إعلامنا اليوم يقف أمام مسئولية تاريخية، هي مصر الدولة ونظامها الديمقراطي، لا احد فوق النقد ولا قداسة لرجل.. لا قداسة لرجل، حتى ولو كان هذا الرجل هو الفريق أول/ عبد الفتاح السيسي! رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي.