بسخرية وببعض من اليأس، سألتنى إحدى القارئات، تعليقا منها على المقال الفائت الذى طالبت فيه الفريق السيسى بأن يبقى فى منصبه، لا يستمع للأصوات التى تلح عليه للترشح لمنصب رئيس الجمهورية، ولكن يبقى على صورته كبطل شعبى. تسخر القارئة لأننى بمقال صغير لا يحتوى إلا عدة كلمات أحاول أن أقاوم رغبة شعبية جارفة، هدفها جعل الفريق يغير رأيه المعلن، ويسعى فى سباق المنصب، ويشى السؤال أيضا بنبرة من اليأس من حدوث تغير، كأننا نعيش جميعا داخل صندوق مغلق، المفتاح ضائع والمشكلات خانقة، أكبر من طاقة أى فرد، وما من حل إلا التوسل للمؤسسة العسكرية حتى تعود مرة أخرى إلى حكم مصر، كأننا لم نجرب حكمها على مدى ستين عاما، ولم نثر عليها منذ أقل من ثلاثة أعوام، وعقابا على هذه الثورة سلمنا الرئيس السابق قبل رحيله إلى المجلس العسكرى، وقام هذا المجلس بواجب العقاب على خير وجه، فقادنا من مذبحة إلى أخرى، واعتدى بالضرب على النساء وانتهك عذرية البنات ثم سلمنا إلى الإخوان، هذا ما حدث دون أن أتهم بالتطاول أو المبالغة، لم يكن الفريق السيسى مشاركا فى ذلك، بل إنه كان من المعارضين لإجراء كشوف العذرية على المعتقلات السياسيات، إضافة إلى عمله الأكبر فى تخليصنا من حكم الإخوان، لم تترك لنا الفرصة لنجرب الحكم المدنى، ولا يمكن حساب محمد مرسى وجماعته الدينية من عداد هذا الحكم، فتلك الجماعة الدينية المغلقة لم تنظر إلى مصلحة الوطن، بقدر ما سعت إلى تدعيم وجودها والحفاظ على مصالحها، وهو ما أدى إلى سقوطها فى نهاية المطاف.
فلنحدد السؤال، هل هناك رئيس مدنى يمكن أختاره؟ بعيدا عن ترشيحات اللواءات المتقاعدين والمتزلفين وطالبى السلطة، دون الإحساس أن مصر قد عدمت الرجال، ولا يوجد فيها إلا بطل أوحد، إذا لم نختره انهار كل شىء، لقد مضى زمن الرئيس الفرد، والزعيم ملهم، ما نريده هو حاكم صالح، يحسن اختيار معاونيه، ويفوض لهم جزءا من صلاحيته، ويترك كرسى الحكم عندما ينتهى دوره دون نزاع أو صراع، شروط بسيطة لا تستلزم منا سوى الخروج عن أسر التصورات المحفوظة، وتدور فى مخيلتى ثلاثة أسماء صالحة للقيام بهذا الدور:
الأول: حمدين صباحى، اسم قديم لأنه قد سبق ترشحه، وجديد لأنه لم يجرب، لم يحظ بالأصوات الكافية للدخول فى عملية الإعادة، وهناك أخبار شبه مؤكدة أنه قد أبعد عن ذلك عمدا، فقد جرت عمليات تزوير واسعة لصالح الفريق شفيق ومحمد مرسى، ولولا هذا لكان صباحى هو الرئيس الجديد، ولتغير مسار التاريخ المصرى، ميزته الأساسية أنه نشأ وصعد وتعلم من بين صفوف الشعب، يعرف طوائفه المختلفة، وتلقى مثله صنوف العنت من أنظمة الحكم السابقة، لم يتراجع أو يغير مواقفه، أعطيته صوتى فى الانتخابات الأولى مثل الملايين من المصريين الذين لم يروا فيه ممثلا حقيقيا للثورة فقط، ولكن لمعرفته بأقدار الرجال، فقد اختار فريقا يشاركه فى تحمل المسؤولية، مجموعة من المتخصصين يحلمون بإدخال صناعات جديدة إلى مصر واستغلال طاقاتها الطبيعية وإيجاد مصادر للطاقة البديلة، هذا الفريق المؤهل هو الرد الأمثل على من يرون أن حمدين أقل من يحكم مصر، وفى رأيى أنه الأفضل، لأنه يعرف كيف يستخدم إمكانيات العقل المصرى دون اللجوء إلى التسول وإراقة ماء الوجه، لقد ظفر حمدين بأصوات المصريين فى المحافظات الأكثر تعليما، وقطاعات العمال، وبسطاء الساحل الشمالى من الفلاحين والصيادين الذين يعانون من شظف العيش، فقد أحسوا جميعا أنه واحد منهم، والخطأ الذى وقع فيه حمدين أنه ظل بعيدا عن المحافظات الفقيرة فى صعيد مصر، وعليه أن يقدم إليهم برنامجا محددا لإخراجهم من الواقع اللا إنسانى الذى يعيشون فيه، وأن يبدأ بذلك منذ الآن.
الثانى هو: مصطفى حجازى، أكاديمى ومفكر، كانت تنقصه التجربة العملية، وهو يمارسها الآن، المرة الأولى التى نرى فيها مفكرا من هذا النوع يشارك فى الإدارة المصرية، وحتى نعرف دور المفكرين فى نشأة الأمم علينا أن نرجع إلى التاريخ الأمريكى، فالذين كتبوا الدستور وصاغوا نظام الحكم كانوا اثنا عشر مفكرا، وظل هذا الدستور هو المرجع الرئيسى لعديد من الدول، وما زالت أمريكا تحكم وتحدد أولوياتها من خلال معاهد البحث ومراكز الفكر، وربما يمثل لنا حجازى أملا فى الخروج من حالة العشوائية التى تمسك فى خنقنا، لا أعرف تاريخ ميلاده على وجه التحديد، ولكنه يبدو الأكثر شبابا وسط حكومة تتسم بالهرم، خبير دولى ومفكر استراتيجى، وقبل أن يصبح مساعدا لرئيس الجمهورية، كان يعمل أستاذا فى جامعة كاليفورنيا أستاذا للإدارة والفكر الاستراتيجى والتطور المؤسسى، عاد إلى مصر وهو يحمل فى ذهنه مشروعا سياسيا يهدف إلى صنع إنسان مصرى حر، وخلق تيار رئيسى يضم كل أطياف الوطن، يقبل الاختلاف فى داخله دون أن يؤثر ذلك على سعيه لخلق دولة معاصرة، بعيدا عن فكرة العسكرة.
الثالث هو الرئيس الحلم أحمد زويل، رغم أنه يبدو بعيدا الآن، ينتمى إلى حضارة أخرى صاغت عقله من جديد، ولكنه يريد أن ينتمى ويعود إلى الوطن من جديد، ولكن الإدارة المصرية لا تتيح له الفرصة، وما زالت حتى الآن تحاول إبعاده، إنه يصارع ألاعيبها كما يصارع المرض، ولا نملك إلا أن نتمنى له شفاء عاجلا. عندما قامت إسرائيل فى نهاية الأربعينيات كانت تريد أن تجعل من العالم الكبير أينشتاين رئيسا لها، كانت تريد من خلال اختيارها هذا الرجل الأسطورى أن تخفى جريمتها فى سرقة أرض الشعب الفلسطينى، وأن تثبت للعالم أنها ستكون واحة للعلم والتقدم بين رمال التخلف العربى، نحن نريد زويل لأسباب أخرى، نريد أن نسترده لأنه قطعة من هذا الوطن، والدليل الحى على أن العقل المصرى ما إن تنزع من أمامه العقبات حتى ينطلق ليقارب النجوم، جاء زويل بفكرة خلاقة هى المراكز المضيئة التى يمكن أن تساعد مصر على العدو فى خطوات متلاحقة نحو التقدم، وهو حلم أخاف كل حكام مصر التعساء منه، فأقاموا قوانين أشبه بالمتاريس ليبقوه بعيدا، حتى لا يأتى ويستقر ويصبح وجوده الطاغى خطرا عليها. إن الهند التى تعيش الآن فترة تقدمها قد تخطت مرحلة هجرة العقول، وبدأت فى جنى العقول، فقد بدأ علماؤها الذين هاجروا إلى الخارج بالعودة إليها، ويمكن أن يحدث هذا بالنسبة إلينا وتمتلئ مصر بالعقول المستنيرة التى نحن فى أشد الحاجة إليها.
أرجو أن أكون قد رددت على القارئة الساخرة، من خلال النماذج الثلاثة التى قدمتها، السياسى الملتزم والمفكر والعالم، ثلاث من الشخصيات كل واحدة منها لا تحتاج إلى مدفع أو دبابة، ومع ذلك تحمل لمصر ما يساعد على تقدمها وزيادة قوتها الناعمة.