منذ ما يقرب من عام ونصف العام، (30/6/2012م)، كان الرئيس محمد مرسى يقف على المنصة فى ميدان التحرير وهو يفتح «جاكتته»، ليعلن للجميع أنه لا يلبس قميصا واقيا للرصاص، لأنه لا يخاف الموت، ولأنه يقف بين محبيه، وقد اختلف الوضع يوم 4 نوفمبر 2013م، حين كان الدكتور مرسى ينزل من المينى باص الأبيض أمام قاعة المحاكمة فى أكاديمية الشرطة، فيصر على ألا يتحرك قبل أن يُحكِم إغلاق أزرار «الجاكتة»، ليستكمل المظهر الرئاسى، حتى لو استغرق ذلك منه بعض الوقت، وظهر عليه وعلى الواقفين بعض الارتباك، لكنه بعد ذلك استطاع أن يمشى مطمئنا مشية تعكس بروتوكول الرئاسة (الصدر المفرود والذراعان المشدودتان والخطوة الواثقة المنتظمة)، وهو ينظر إلى من وقفوا فى انتظاره من رجال الأمن وكأنه يتوقع منهم أن يحيوه، لكنه فوجئ باستقبالهم الفاتر المترقب، فظهرت على وجهه علامات استياء للحظات حاول بعدها أن يخفيها بابتسامة «إخوانية» دخل بها القاعة، ليخفى ما بداخله من قلق أو صراع، وفى القاعة تعلو هتافات الأحباب المحتجزين فى القفص بستراتهم البيضاء التى رفض الدكتور مرسى أن يرتديها، وأشار بذراعه المفرودة وكفه المنبسطة إلى الحضور، فى تحية رئاسية لم تختلف عما اعتاده وهو يحيى الجماهير إلا فى أنه استخدم إشارة «رابعة» فى كفه هذه المرة، على الرغم من كون هذه الإشارة خارجة عن بروتوكولات التحية الرئاسية، وهنا ظهر الصراع بين مظلومية ومحنية وكربلائية إشارة «رابعة» وبين فخامة واستعلائية الذات الرئاسية فى داخله. وقد تأكد هذا الصراع حين وصل إلى صدارة القفص، ولم يجد كرسيا يجلس عليه، فظل واقفا، رافع الرأس، مكسور الخاطر، إذ كان منذ وقت قريب يجلس على كرسى المنصة والصدارة، ويأخذ نفسا عميقا يملأ صدره، ثم ينظر ليرى الجميع يتطلعون إليه، فيوزع عليهم ابتساماته، ثم يتحدث وهم ينصتون.
هذه المرة اختلف الوضع كثيرا، فهيئة المحكمة تناديه كمتهم، وتطالبه بخلع «الجاكتة» ولبس السترة البيضاء مثل أى محبوس احتياطى طبقا لقواعد القانون، وهنا يتشبث الدكتور مرسى بالجاكتة وبالشرعية معا، ويحدث الصراع بينه وبين هيئة المحكمة، ولذلك كان لابد أن يخلع عن هيئة المحكمة شرعيتها، قبل أن تخلع هى عنه الجاكتة، فأعلن بطلان كل ما حدث ويحدث، وطالب الجميع بالاعتراف والقبول بأنه رئيس الجمهورية، ولابد أن يخرج ليمارس مهامه الرئاسية الشرعية، وهنا استوجب الأمر تكرار كلمة الشرعية مرات عديدة (كما حدث فى خطاب سابق قبل العزل)، وذلك للتثبيت والتثبت الذاتى، ولإقناع من لا يقتنعون من السامعين.
لقد أصبح الأمر صراع إرادات، فإرادة المحكمة تستوجب أن يخلع محمد مرسى الجاكتة، وإرادته هو تستوجب أن يظل مرتديا الجاكتة، (رداء السلطة)، خاصة أنه قد أغلق أزرارها لمزيد من الإحكام والاطمئنان والتشبث، وربما رأت هيئة المحكمة أن تؤجل حسم هذا الصراع إلى حين، خاصة أن هذه أول جلسة وهى جلسة إجراءات، وهنا شعر الدكتور مرسى بالزهو والانتصار، فها هو يقف بزيه الرئاسى الكامل يهاجم المحكمة، ويطعن فى مشروعيتها وشرعيتها، ويؤكد لذاته ولأنصاره ولكل وسائل الإعلام المحلية والعالمية أنه مازال الرئيس الشرعى المنتخب. إنها إشارة صمود واستمرار وفرصة لتحقيق نصر سياسى ومعنوى، مهما كان الثمن.
ثم ظهر صراع آخر متصل بصراع الجاكتة ألا وهو مسألة الدفاع، فالأعراف القانونية تقضى بأن يدافع محام عن المتهم، حيث يعرف المحامى المداخل والمخارج القانونية التى يمكن أن تبرئ ساحة موكله، ولكن هذا لو حدث فإن فيه اعترافا صريحا بأنه متهم، وفيه اعتراف بشرعية المحكمة ومشروعية المحاكمة، لذلك يرفض الدكتور مرسى هذا الإجراء أيضا، على الرغم من أن المحامى هو أحد أصدقائه وأحبابه، (الدكتور سليم العوا)، أحد المدافعين عنه سياسيا وإنسانيا، وقبل ذلك محام بارع، وأصر الدكتور مرسى على أن يدافع عن نفسه، رغم أنه يعلم أن دفاعه لن يكون قانونيا، بل هو دفاع سياسى لا يهم المحكمة فى شىء، ولا يفيده فى القضية، ولكنه كان يهدف مرة أخرى إلى إثبات موقف تاريخى يعتز ويفخر به ويهديه إلى أنصاره ومحبيه الذين يسعدون بذلك، مهما كانت نتائج المحاكمة، ففى الجماعات العقائدية تبدو المواقف والكلمات ورفع الرأس والابتسامة عند المحنة أهم من المقدمات والنتائج، وحتى أهم من الحقائق ومتطلبات الواقع ومستلزمات القانون. وهنا احتدّ الصراع وصار بين هيبة الرئاسة التى تلبسها مرسى وبين هيبة المحكمة التى تمثل الدولة، وتأكد مرسى أن أمامه فرصة لكسب هذه الجولة وتحقيق انتصار سياسى وإعلامى وإعلان بطولة فيما يعتقد أنه باطل.
وهذا الموقف تتم قراءته بطريقتين مختلفتين، فأنصاره وأحبابه سوف يرونه موقفا بطوليا صمد فيه رئيسهم أمام قوى الباطل، وظل رافع الرأس مبتسما غير مبال بما يحدث، وأن إرادته انتصرت على إرادة المحكمة وإرادة الدولة التى يعتبرونها باطلة وغير شرعية، أما الذين لا يناصرون مرسى فسوف يقرأون المشهد على أنه حالة من الإنكار الشديد للواقع، وأن الرجل لا يستطيع أن يصدق ويستوعب ما حدث فى الشهور الأخيرة، ولا يدرك التغيرات التى جرت فى الخريطة السياسية والمجتمعية، ولا يعرف أنه فقد الشارع (أو غالبيته على الأقل)، ولا يستطيع تحمل فكرة ضياع السلطة، (الحلم)، وأنه حين يتحدى إرادة المحكمة فإنه يتحدى إرادة القضاء، ويعيد إلى الأذهان صراعه التاريخى القديم مع مؤسسات الدولة، حين كان مطاردا ومحظورا، ويعيد إلى الأذهان صراعه مع هيئة المحكمة الدستورية، وقت حلف اليمين، وصراعه بعد ذلك مع قطاع كبير من المؤسسة القضائية، وأنه لم يستوعب الدرس جيدا، ويستمر فى إعطاء إشارات التصعيد والمواجهة لأنصاره، مع ما يترتب عليه من استمرار الصراع واحتدامه.
وكان ثمة تناغم بين ما يقوله وما يفعله الدكتور مرسى، وما يقوله وما يفعله باقى الموجودين فى القفص من أعضاء الجماعة، فهم قد أنكروا التهم، وأنكروا شرعية المحكمة ومشروعية المحاكمة، وأعطوا ظهورهم للقاعة، فى إشارة حسية لإنكار كل ما يحدث وعدم رؤيته واعتباره غير موجود.
ولو قارنا بين موقف محاكمة مرسى وموقف محاكمة مبارك ومحاكمة صدام حسين فسنجد أن مبارك، (الديكتاتور المخلوع)، استسلم للمحاكمة، ودخل المحكمة بنظارة سوداء تحجب عينيه عن مواجهة الحضور، وكان متمددا على سرير يعكس حالته المرضية، كنوع من الاستعطاف، وحين ناداه القاضى رد: «أفندم»، وحين وُوجه بالتهمة رد بالنفى على القاضى مثل أى متهم يدافع عن نفسه، وسار فى الخطوات الطبيعية للتقاضى، وحاول بكل ما يستطيع مراوغة المحكمة بالطرق القانونية، واستعان بمحامين محترفين للوصول للبراءة، أما الدكتور مرسى فلم يعترف بالمحكمة، وأعلن أنها باطلة، وتصرف كرئيس جمهورية دخل إلى قاعة المحكمة بطريق الخطأ، وكرر كلمة الشرعية مرات عديدة، وكان أقرب فى موقفه من المحكمة وطريقة تعامله معها إلى صدام حسين، حين هاجم المحكمة وهاجم القاضى الذى كان يمثل فى نظره سلطة الاحتلال غير الشرعية، وتصرف كرئيس مسلوب السلطة غدرا. ويبدو أن الفرق بين موقف مبارك وموقف مرسى من المحكمة والمحاكمة يأتى من الخلفية الشخصية والتاريخية لكل منهما، فمبارك على الرغم من فساده واستبداده ومساوئه العديدة فإن له خلفية عسكرية تجعله يحترم الأوامر والتعليمات حين تصدر من سلطة، حتى ولو كان مختلفا معها، كما كان رجل دولة لسنوات طويلة، ويعرف معنى المؤسسات وأهمية السلطة القضائية وهيبتها، ولم يكن فى صراع مع السلطة القضائية، (على الرغم من محاولاته لاحتوائها إبان وجوده فى السلطة)، أما مرسى فقد كان لفترات طويلة من حياته فى صراع مع المؤسسات الرسمية، خاصة الأمنية والقضائية للدولة، وحتى حين أصبح رئيسا لمدة عام فقد كان فى خصومة حقيقية مع مؤسسة القضاء، (رغم محاولاته إخفاء ذلك وامتداح القضاء الشامخ فى الخطاب الرسمى)، ومن هنا نفهم موقفه الصراعى مع المحكمة.
وأغلب الظن أن الدكتور مرسى حين يعود إلى محبسه سيكون شاعرا بالسعادة والرضا، وبأنه حقق انتصارا نقلته وسائل الإعلام المحلية والعالمية، بصرف النظر عن النتائج، وأنه أملى إرادته على الجميع، وأعطى إشارة صمود وثبات لمناصريه، وأنه سائر على عقيدة الجماعة ومنهجها فى الصمود والثبات ومواجهة المحن والاضطهاد، أى أنه سيكون متوافقا ومتناغما مع قيمه وتوجهاته بشكل يجعله مرتاح الضمير مطمئنا لما سيكتبه عنه التاريخ.
كل هذا تبدو أهميته فى محاولة قراءة المستقبل، فعلى ما يبدو مما حدث فى المحاكمة أن الفترة المقبلة ستكون مرحلة صراع إرادات وتكسير عظام بين الدولة والإخوان، وستظهر نتائج ذلك فى الجلسة المقبلة، متمثلة فى وجود مرسى بالجاكيت أو بالسترة البيضاء، ومع ذلك فهناك أمل، (ولو ضعيفاً)، فى أن تكون المرحلة المقبلة «تليين مواقف»، خاصة لو تدخل العقلاء والحكماء، وعالجوا حالات الإنكار والتشبث، من ناحية، وحالات الإصرار على الإقصاء والإفناء من ناحية أخرى.