يحار المرء فى فهم عدد من السياسات والأفكار التى يتبناها فريق من أهل الحكم والنخبة فى مصر، والتى تعكس غياب الرؤية وعدم وضوح الهدف، أو على الأقل تحتاج للمراجعة فى ضوء الظروف الجديدة التى تمر بها البلاد.
القضية الأولى تتعلق بالإصرار على إجراء الانتخابات البرلمانية قبل الرئاسية بالرغم من حالة الفراغ فى القيادة التى تعانى منه مصر، وظهور دوائر مستقلة للحكم يسبح كل منها فى فلكه الخاص دون تنسيق مع الآخر. ويطرح أنصار انتخابات البرلمان أولا عددا من الحجج الإجرائية مثل وجود نص بذلك فى خريطة المستقبل والإعلان الدستورى، والحاجة لسرعة نقل السلطة التشريعية من الرئيس المؤقت للمجلس المنتخب، وضرورة وجود البرلمان مسبقا حتى يستطيع الرئيس الجديد حلف اليمين أمامه.
كما يشير آخرون لحجة سياسية مفادها أن الأوضاع السياسية فى البلاد سوف تستقر ملامحها بعد انتخابات البرلمان، وقد يؤدى هذا لظهور مرشحين جدد للرئاسة أو حسم موقفهم من هذه الانتخابات.
ومع وجاهة هذه الحجج، إلا أن الأوضاع فى مصر لم تعد تحتمل غيابا رئيسيا حقيقيا يمارس سلطاته الكاملة ويتحمل مسؤولية إدارة البلاد. وأصبح واضحا أن التحديات التى تواجهنا أكبر من أن يتحملها فريق مؤقت، يتعامل مع المشاكل بأسلوب مؤقت. ومن الصعب تصور استمرار هذه الأوضاع لمدة ستة شهور أخرى- على الأقل- حتى يتم انتخاب رئيس جديد. وبالنسبة للحجج الإجرائية فمن السهل التعامل معها فى إطار الدستور الجديد الذى سيحل محل خريطة المستقبل، ويمكن أن ينص صراحة فى أحكامه الانتقالية على إجراء انتخابات الرئاسة أولا، وعلى انتقال سلطة التشريع إلى الرئيس الجديد أو لجنة الخمسين حتى انتخاب البرلمان الجديد. أما بالنسبة لحلف اليمين فمن الأفضل أن نرسى تقليد أن يتم ذلك أمام المحكمة الدستورية أو رئيسها كما هو سائد فى العديد من دول العالم، وكرمز لاحترام القانون والدستور. وبخصوص الحجة السياسية، فليس هناك ضمان أن الأوضاع السياسية فى البلاد ستكون أكثر استقرارا وتوافقا بعد انتخابات البرلمان، وهناك شكوك حول قدرة الحكومة الحالية على إدارة هذه الانتخابات، والتى سوف تلقى بظلالها على انتخابات الرئاسة. على العكس من ذلك فإن حسم انتخابات الرئاسة أولا- وخاصة لو ترشح الفريق السيسى- قد يؤثر إيجابيا على المناخ السياسى للبلاد، ويتيح أجواء أقل توترا لإجراء انتخابات البرلمان، وأكثر ثقة فى التعامل السياسى مع التيار الإسلامى. كما أنه سوف يتيح للرئيس الإسهام فى اختيار رئيس الوزراء الجديد بعد انتخابات البرلمان، وهو ما يفترض انتخاب الرئيس أولا.
القضية الثانية تتعلق بغياب الرؤية فى عدد من التعديلات الدستورية المقترحة بلجنة الخمسين، ومنها التخبط بشأن نظام الحكم بالرغم من أن الأسس التى يقوم عليها النظام شبه الرئاسى معروفة، ويجب أن نأخذها كما هى دون أى تلفيق أو تفصيل وإلا انهار البناء بالكامل. والدستور الفرنسى الذى يأخذ بهذا النظام يوجد به نصوص واضحة يمكن الاقتداء بها. وأى نصوص عن اختلاف مدة البرلمان عن مدة الرئيس، أو انتخاب البرلمان قبل الرئيس، أو سحب الثقة من الرئيس سوف تخل بقواعد هذا النظام.
ويرتبط بقضايا نظام الحكم سعى البعض لإعادة مجلس الشورى تحت مسمى مجلس الشيوخ بحجة تجويد العملية التشريعية والاستفادة من كفاءات يمكن تعيينها فى البرلمان. ومع افتراض حسن النية فى مقدمى هذا الاقتراح فإن تطبيق هذه الفكرة فى المرحلة الحالية قد يعوق ويبطئ الإنجاز التشريعى لضرورة موافقة المجلسين على كل تشريع بشكل متطابق، وهى رفاهية قد لا تحتاجها مصر الآن بل تحتاج مجلسا واحدا يتعامل بشكل عاجل مع التحديات التى يواجهها المجتمع، وتستطيع الأحزاب والجامعات ومراكز الأبحاث أن توفر المعلومات التى يحتاجها المجلس، وتضمن جودة التشريع دون الحاجة لإنشاء مجلس آخر.
هناك أيضا غياب للرؤية الدستورية المتعلقة بالنظام الاقتصادى والتى تتبنى الحرية الاقتصادية فى نصوص، وتوسع من دور الدولة وحجم إنفاقها فى نصوص أخرى. بل وتفرض سياسات معينة على الحكومات المنتخبة ليس مكانها الدستور مثل النص على الضرائب التصاعدية أو تحديد نسب الإنفاق الحكومى فى مجالات معينة.
نحتاج رؤية واضحة بشأن هذه القضايا، وبدونها قد لا نستطيع أن نحقق تقدما فى العديد من التحديات الأخرى التى تواجهنا.
* أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة