عام ١٩٠١، فرش الإيطاليون أرض وسط مدينة ميلانو بالقش، لكيلا تُزعج حوافرُ الخيول وعجلات العربات الخشبية، ساحرَ الموسيقى «جوزيبيه فيردى»، (مؤلف أوبرا عايدة)، وهو على فراش المرض. وكرروا الطقسَ فى مئوية رحيله. يعرفون قيمة الأوبرا، والموسيقى، والفنون الراقية.
أما نحن، فعُدنا من جهاد أصغر، قاده ثوّارٌ مستنيرون فأسقطوا ظلاميين لصوصَ أوطان، لندخل ساحة «الجهاد الأكبر»، الذى فيه ترميم العقول التى تهشّمت، وتجبير الأرواح التى تصدّعت، على يد مغول الظلام.
فرسانُ المعركة القادمة، هم التنويريون صُنَّاعُ الفكر والآداب والفنون، التى تفتحُ العقولَ على النور، وتجلو قشورَ عتمة ترسّبت خلال عامين، حاول خلالهما ظلاميون سرقةَ عقول المصريين. لكن أبناء طِيبة، أبوا أن يكونوا صيدًا سهلا لأعداء الجمال.
لا تصدّقوا أن «عمر خيرت» مايسترو، ينحتُ على السطور الخمس نغماتٍ تطيرُ من أصابعه وتُغرّد على أمواج البيانو، بل هو فارسٌ حتمىٌّ وجوده الآن. فارسٌ برتبة «موسيقار». إن غاب عن المشهد، أو غُيِّب بفعل فاعل، كما حاول أرباب الظلام محاربة الأوبرا، استكانتِ العقولُ فى ظلامِها، ونامت الأفئدةُ مُثقلةً بالجهالة والخمول.
وأنا أتأمله الأربعاء الماضى، جالسًا إلى البيانو كـ ملكٍ مُتوّج، ينثرُ النغمَ فى فضاء المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية، شَعرتُ بهول احتياج مصرَ إليه الآن. هو، وأترابُه من صُنّاع الجمال، مرصِّعو الثريا فى السموات المظلمة، هم فرسانُ اللحظة العسِرة التى نمرُّ بها. صدَق أفلاطون القائلُ: «علّموا أولادكم الفنونَ، ثم أغلقوا السجونَ». وحدَه الفنُّ الراقى قادرٌ على إصلاح ما أفسده طغاةُ لحق بهم ظلاميون ليُكملوا الإجهاز على عقل مصرَ وتاريخها. وحدهم صانعو الفرح والجمال والفن المحترم، عليهم تقع تبِعة استعادة مصرَ حضارتَها العريقة، وتاريخَها المشرق، الذى يأبى أن يُسرَق أو يُمحا أو يخبو.
بعد الحفل، فكرتُ أن أذهب إليه بغرفة الموسيقيين لأصافحه وأشكره لقاء ما منحنى من متعة تكفينى حتى موعد حفله القادم. ثم تراجعتُ لسبيين. أولا، لكيلا تقطع الحالَ السماويةَ التى كانت تغمرنى، أفعالٌ أرضية مثل المصافحة والحديث والابتسام وتعبيرات الودّ المتبادل. وثانيًا لأننى قررتُ أن تكون مصافحتى إياه علنيةً فى مقال.
سأخبره بما قلتُه للدكتورة «إيناس عبدالدايم» الفنانة الجميلة، ورئيس دار الأوبرا المصرية، وإحدى شرارات ثورة ٣٠ يونيو. كلما صافحتُها أختم كلامى بأن عليها الآن دورًا شاقًّا وعبئًا هائلا لتنوير العقول وتثقيف الأرواح. كذلك أقول للمصرىّ العظيم «عمر خيرت»: إن حربنا القادمة، هو فارسُها لكى يغسل عن القلوب أدرانَها، فنقوم ونبى مصرَ التى عذّبناها طويلا. شكراً أيها الفارسُ على كل هذا الفرح.