أتابع بمزيد من التثاؤب أحداث فيلم «ألف مبروك» التى تشكل الحياة السياسية فى مصر، والحياة السياسية أصبحت هى الحياة، فبعد أن كان لا أحد يشغل نفسه بالسياسة، تحول الجميع إلى ساسة، ولا أرى فى ذلك غضاضة، على العكس، قد يكون هذا التسييس المفاجئ للمجتمع المصرى هو المكتسب الوحيد لثورة 25 يناير. لكن لماذا علينا أن نتحمل كل هذا القبح؟
كلما سرت فى الشارع، أو أطلَلت عليه من شرفة بيتى أرى امرأة تسير وحيدة، تحمل لافتة، عليها إما صورة السيسى، وإما شارة رابعة، وتصرخ: «الله أكبر»، وحَسَب نوع اللافتة التى تحملها، فإن كانت تحمل صورة السيسى فهى تقول «الله أكبر... مؤامرة على مصر... افرم يا سيسى الخونة والطابور الخامس»، وإن كانت تحمل شارة رابعة فهى تقول: «الله أكبر.. قتلوا الساجدين.. واعتقلوا الحرائر». ويبقى سؤال يدور فى ذهنى: لماذا كل من أصابهم الجنون بهذا الشكل هم من النساء فقط؟ قد أكون أنا التى لم أصادف بعدُ رجلا أصابته اللوثة، وقد يرجع ذلك إلى طبيعة الجهاز العصبى للمرأة الذى لا يتحمل كل هذا القبح وثقل الظل.
حتى إن كنا نعيش جوا تعبويا استقطابيا، فلماذا يجب أن يكون قبيحا؟ ولماذا على المواطن أن يكون ثقيل الظل؟ بين الثلاثى رابط قوى: القبح، وثقل الظل، والغباء. فلا يمكن لغبىّ أن يكون خفيف الظل، ولا يمكن لثقيل الظل أن يقدر الجمال أو أن يُنتِج جمالًا.
لا يحتاج الأمر إلى مزيد من إفصاح أو توضيح، فكل شىء ظاهر للعيان، لكننى أجد رغبة عارمة فى البكاء على أطلال ثورة أنتجت جمالا، وعنفوانا، وحيوية، وإبداعا، وخفة ظل، ثم ركب عليها «الفصيل الوطنى»، جماعة الإخوان، بكل القبح، وثقل الظل، والاستعلاء، وانعدام الابتكار، فجثموا عليها وخنقوها، فلم يعد للناس مجال للإبداع لانشغالهم بالرد على هراء سخيف: «أنا مش كافر.. أنا مش فلول».. ثم إعادة رواية القصة من بدايتها لأن الجماعة تُصِرّ على إعادة كتابة التاريخ بتزوير متبجح ممجوج، فمن تزيِّف عليهم الحقائق ما زالوا على قيد الحياة، شاركوا، ويعلمون ما حدث بالضبط، ومع تصاعد تهديدات الجماعة (لو مشيتونا يبقى تتفاهموا مع الجهاديين بقى) وجد الناس أنفسهم فى مأزق، لا يملكون سوى استدعاء الجهة الوحيدة التى تملك من القوة ما يضاهى الجماعة فى قبحها، واضطُرّ الناس إلى تجرُّع نوع جديد من القبح، وثقل الظل، وانعدام الإبداع، وعدم تقدير الجمال، بل والاستهزاء به. واضطروا إلى إحلال أكوام قمامة جديدة تسكب فى نفوسهم وعلى أسماعهم مترعة بالتخوين والمؤامرة واتهامات الطابور الخامس والجيل الرابع والطرف التالت وحسب الله السادس عشر، مكان أكوام قمامة أخرى كانت مليئة بالتكفير، والمؤامرة أيضًا، وأمير المؤمنين، وحفيد عمر بن الخطاب.
ومن يوم أن حلّ القبح محل الجمال، الواحد لا عارف يسمع له غنوة حلوة، ولا يشوف له فيلم عِدِل، ولا حتى يسمع نكتة لطيفة، أو يلقى طرفة دون أن تؤخَد مأخذ الجد الذى يستتبع وقفة احتجاجية، يتبعها اعتداءات وسباب وخوض واتهامات.
الحقيقة أن فكرة برنامج «البرنامج» لمقدمه باسم يوسف، ليست مبتكَرة أو جديدة، فهى نسخة معرَّبة من برامج الكوميديا السياسية الأمريكية، وبالتحديد من برنامج جون ستيوارت، لكنها نسخة مُعَدَّة بإحكام، ومهنية، وحرفية عالية، وهى خفيفة الظل حقًّا. هو ليس برنامجًا إبداعيًّا، لكنه جماهيرى، ناجح، مُتقَن. الحقيقة الثانية أن الولايات المتحدة الأمريكية ترعى هذا النوع من البرامج فى إعلامها لأنه الوسيلة الفُضلَى للحفاظ على النظام لا إسقاطه، فهى الوسيلة التى تجعل الناس يضحكون على آلامهم، وفى ذات الوقت تظهر الدولة بمظهر القوى، رحب الصدر، الذى لا يجثم على أنفاس مواطنيه، ومن ثم، فإن الكبت الذى يصنع الثورات، يتم تفريغه أولا بأول عبر هذه البرامج. ثقل ظل الجماعة التى لم تتقبل هذا النوع من البرامج، وكان يمكنها استغلاله للحفاظ على كرسى الحكم لو أنها تصرفت بحكمة أكبر، هو أحد الأسباب التى ألّبت الرأى العام عليها: يعنى حتى مانضحكش؟ لكن ما حدث مؤخرًا مع باسم يوسف، يُظهِر الآن الجماعة بمظهر «اللِّى لهم الجنة»، فقد تَحمَّلوا أضعاف ما لم يتحمله الحكم الانتقالى من نقد وسخرية قبل أن يُقدِموا على خطوتهم الانتحارية فى تقديم باسم يوسف للتحقيق.
الأمر ليس غريبًا، فمن المعتاد أن الفاشية العسكرية والدينية كلتاهما تتمتع بثقل الظل وانعدام الإبداع.
الغريب أن جماهير تستمع إلى «تسلم الأيادى» ووصل بهم الانحدار إلى سماع أغنية بعنوان «فوّضناك» بأداء اثنتين من نجمات الكباريهات الترسو، يتأففون من «إسفاف» باسم يوسف.