بينما كان الفريق أول عبد الفتاح السيسي يلقي بيانه الشهير مساء 3 يوليو الماضي، كانت سيارات الشرطة تتوجه إلى مدينة الإنتاج الإعلامي، وتقتحم مقار عدة قنوات إسلامية مؤيدة للرئيس المعزول، وتغلقها وتعتقل عددًا من العاملين فيها، قبل أن يتوقف بث هذه القنوات نهائيًا، ودون سند قانوني واضح.
وقتها كان للمدافعين عن القرار الأمني بغلق هذه القنوات منطق حاسم، أن «للثورة قانونها»، وهذه القنوات حرّضت على العنف ضد معارضي الرئيس المعزول، كما إنها تمارس تحريضًا طائفيًا، وبالتالي لابد من إجراءات استثنائية، عاجلة ناجزة، لا تنتظر مماطلات المحاكم وقرارات النيابة.
ولكن ما حدث بعد ذلك، عزز مخاوف بأن ما يجري في مصر، بعد الثالث من يوليو، ليس مجرد إجراءات ثورية لحماية المجتمع من تحريض وسائل الإعلام، فالسلطة التي أسكتت المحرضين الإسلاميين تركت توفيق عكاشة ومرتضى منصور يكيلون الشتائم والاتهامات والبذاءات على الكل نهارًا جهارًا.
عندما قمعت السلطة «المحرضين الإسلاميين»، وتركت أولئك المحرضين الذين يمتحدون الفريق أول، بدا أن ما يجري حرب حقيقية ضد حق المجتمع في المعرفة، وضد حرية تداول المعلومات، وضد حرية الرأي والتعبير بمفهومهما الأوسع.
وحدث أن وثقت منظمة «مراسلون بلا حدود»، بعد شهرين من استيلاء الجيش على السلطة، قتل 5 صحفيين بيد رجال السلطة العامة، هم الزملاء الشهداء أحمد سمير عاصم السنوسي «الحرية والعدالة»، ميك دين (بريطاني) «سكاي نيوز»، أحمد عبد الجواد «الأخبار»، مصعب الشامي «رصد»، وتامر عبد الرؤوف «الأهرام».
الأربعة الأُوَل قتلوا وهم يمارسون عملهم الصحفي البحت في تغطية الأحداث والاشتباكات التي دارت وقتها بين أنصار المعزول وقوات الشرطة والجيش ومؤيديهم. أما الأخير، فقتل بعد أن أطلقت عليه قوات الجيش الرصاص وهم يمر من أحد الأكمنة.
وكانت هذه هي الحصيلة الأسوأ في تاريخ الصحافة المصرية.
وإلى جانب الشهداء الخمسة، اعتقلت السلطات 80 صحفيًا بطريقة تعسفية، واعتدى ممثلوها على 40 صحفيًا آخر.
وأدانت المنظمة العريقة «أجواء العنف والاحتقان السياسي التي وجد الصحفيون، سواء منهم المحليين أم الأجانب، أنفسهم مجبرين على العمل فيها»، واعتبرت أنه «من غير المقبول أن يُصبح الصحفيون عرضة للاستهداف المتواصل».
تزامن ذلك مع حملة في كل وسائل الإعلام التي لم تغلقها السلطات، لتبييض وجه الفريق أول، وتقديمه بصورة البطل المنقذ، الذي حمل آمال الشعب وطموحاته، نودي فلبّى النداء، أُمِر فأطاع الأمر. هالة من التقديس والتبجيل في الصحف، مقالات تمتدح وأخرى تتغزل، وفي محطات التليفزيون لا يكاد الضيف ينتهي من ذكر مآثر الفريق أول وبيان أوجه حكمته وحنكته، حتى يأتيك في الفاصل الأوبريت البائس «تسلم الأيادي». صار الإعلام كله، الخاص منه والمملوك للدولة، وكأنه أحد أفرع الشؤون المعنوية في وزارة الدفاع، الحملة التي لخّصها الكاتب الكبير –سنًا- أحمد رجب، بكلمتين في مساحته اليومين بأخبار اليوم: «إلا السيسي».
اللافت، أن ما كتبه «رجب»، كان ردًا على باسم يوسف، الذي سخر في حلقته الأولى –والأخيرة- من الموسم الثاني لبرنامجه على «سي بي سي» من خطاب مسرب للفريق أول، يتحدث فيه عن ضرورة زراعة «أذرع» للمؤسسة العسكرية في وسائل الإعلام، تماشيًا مع الوضع الجديد الذي فرضته ثورة 25 يناير، والذي رفع حظر تناول الجيش في الإعلام.
ما حدث مع باسم يوسف كان الضربة الأكثر ضجيجًا التي وجهها «نظام 3 يوليو» لحرية التعبير، لكنها ليست بأي حال الضربة الأولى، ولكنها تأتي في سياق واضح: قيادة تزرع الأذرع في وسائل الإعلام لتعيد ضبط الأمور إلى ما قبل 25 يناير، وقواعد على الأرض تطلق النار على من ينقلون الحقيقة، أو تعتدي عليهم، أو تعتقلهم وتبدأ محاكمتهم، عسكريًا في بعض الأحيان، كحالة الزميل أحمد أبو دراع.
عندما طلب الفريق أول تفويض الشعب لمحاربة الإرهاب المتوقع، كانت هناك مخاوف معقولة من تجاوز حدود هذا التفويض الشعبي واستخدامه في مواجهة معارضيه. وكل يوم تتعزز هذه المخاوف..
إنهم يقتلوننا ويقطعون ألسنتنا بتفويضكم.