بعد غياب طويل عن وسائل الإعلام والصحف، قرر الدكتور مفيد شهاب، أستاذ القانون الدولى بجامعة القاهرة، أحد أهم رجالات القانون فى مصر، أن يختص «المصرى اليوم» وقراءها بإطلالة مميزة، من خلال واحدة من أهم الدراسات القانونية التى تلخص أزمة مياه النيل وسد «النهضة» الإثيوبى، تنشر على حلقتين متتاليتين.
د. مفيد شهاب وزير التعليم العالى، ووزير المجالس النيابية والشؤون القانونية، ورئيس جامعة القاهرة الأسبق، يكتب روشتة «أزمة حوض النيل» و«الاتفاقية الإطارية» التى فجَّرت نهراً من الأسئلة المحيرة عن كيفية الوصول لطوق النجاة لتفادى غرق مستقبل الأجيال القادمة دون مياه «النيل»، بتحليل قانونى تطرق فيه لجميع السيناريوهات والحلول، ووضع بين أيدى قرائنا ومسؤولينا، وحتى إثيوبيا نفسها، دراسة وافية عن أزمة النهر: «الحقوق، الواجبات، وتسوية النزاع» فى رحلة تاريخية قانونية استقرائية شافية وافية بالحجج والأسانيد.. عبر السطور التالية.
لعله من الواجب أن نتناول- بدقة وموضوعية- بعض الجوانب القانونية المتعلقة ببناء سد النهضة الإثيوبى، فى ظل التطورات الأخيرة، خاصة بعد توقيع غالبية دول حوض النيل إطاراً عاماً للتعاون بينها (إطار عنتيبى) عام 2007، من ناحية، وبدء الخطوات التنفيذية من جانب إثيوبيا لبناء السد، الذى نُفِّذ حتى الآن أكثر من 20% من متطلباته، من ناحية أخرى:
تطور الأوضاع القانونية لعلاقات مصر بدول حوض النيل:
■ ترتكز السياسة المائية المصرية، فى أحد محاورها، على توطيد علاقات التعاون مع باقى دول حوض النيل (10 دول: أوغندا- إثيوبيا- السودان- الكونغو- بوروندى- تنزانيا- رواندا- كينيا- إريتريا- جنوب السودان)، على أساس من الإيمان بضرورة تنمية موارد وطاقات النهر المائية والعمل على حسن إدارتها.
■ وهى تستند أيضاً إلى الحرص على عدم المساس بحقوق مصر التاريخية فى مياه النيل، وفقاً للاتفاقيات الدولية، ومبادئ القانون الدولى، والأعراف الدولية.
■ كذلك فإن لمصر حقاً طبيعياً فى الحصول على المزيد من إيرادات النهر، من خلال تنفيذ حزمة من مشروعات مائية طموحة طرحتها منذ عام 1999، فى إطار مبادرة حوض النيل، التى ساندها فيها المجتمع الدولى تحت مظلة الفائدة المشتركة.
■ وقد أبرمت مصر مجموعة من الاتفاقيات الخاصة بمياه النيل، مع عدد من الدول الاستعمارية التى كانت تحتل أو تقوم بحماية أو إدارة شؤون بعض دول حوض النيل نيابة عن هذه الدول الأخيرة، وتضمنت هذه الاتفاقيات نصوصاً صريحة حول عدم إقامة أى مشروعات على مجرى النهر أو فروعه تقلل من نسبة تدفق المياه، أو تؤثر على كمية المياه الواردة إلى مصر، ومن هذه الاتفاقيات:
1- اتفاق روما فى 15 إبريل 1891، بين بريطانيا وإيطاليا، والخاص بتقسيم الحدود بين إريتريا والسودان، ينص فى مادته الثالثة على تعهد الحكومة البريطانية بالامتناع عن إقامة أى أعمال على نهر عطبرة من شأنها التأثير على كمية المياه التى تصل إلى مصر.
2- وفى 15 مايو 1902 تم التوقيع على اتفاقية بين كل من بريطانيا وإيطاليا وإثيوبيا، تعهد فيها ملك إثيوبيا بعدم إقامة أى مشروعات سواء على النيل الأزرق أو بحيرة قانا أوعلى نهر السوباط يكون من شأنها التأثير على مياه النيل.
3- أما معاهدة لندن فى 9 مايو 1906، بين بريطانيا وبلجيكا نيابة عن الكونغو، فقد نصت فى مادتها الثالثة على تعهد حكومة الكونغو بعدم إقامة أو السماح بإقامة أى مشروعات على نهر السمليكى أحد روافد نهر النيل.
4- كما وقعت بريطانيا وإيطاليا فى 20 ديسمبر 1925 اتفاقاً اعترفت إيطاليا بموجبه بالحقوق المائية لكل من مصر والسودان على النيل الأزرق والنيل الأبيض وروافدهما، وتعهدت فيه بالامتناع عن القيام بأى أعمال من شأنها تعديل حجم المياه فى الأنهار وخاصة نهر النيل.
5- وهناك الاتفاق الموقع فى 7 مايو 1929 بين كل من مصر وبريطانيا، والذى اعترفت فيه الأخيرة بحقوق مصر التاريخية والمكتسبة فى مياه النيل.
6- ثم تأتى اتفاقية نوفمبر لعام 1959 بين مصر وبريطانيا، التى اعترفت بحقوق مصر التاريخية فى مياه النيل، وخصصت لمصر حصة سنوية مقدارها 55.5 مليار متر مكعب.
7- أيضاً وقعت مصر اتفاقية مع أوغندا عام 1991 تضمن حقوقها التاريخية، وتؤكد «التزام أوغندا- طبقاً لاتفاقية 1929- بعدم القيام بأى أعمال يكون من شأنها التأثير على مجريات مياه النيل إلا بعد التشاور مع مصر».
8- كذلك وقعت اتفاقية أخرى مع إثيوبيا فى أول يوليوعام 1993 تنظم التعاون فى مياه النيل، وتنص على عدم إضرار أى منها بالأخرى، وأن يكون استخدام مياه النيل طبقاً لقواعد القانون الدولى.
■ وفى عام 1999 تم الإعلان عن مبادرة حوض النيل، وهى تمثل الآلية الحالية التى تجمع كل دول الحوض تحت مظلة واحدة تقوم على مبدأين أساسيين وهما تحقيق المنفعة للجميع وأيضاً عدم الضرر، إلا أنها آلية مؤقتة لا تستند إلى معاهدة أو اتفاقية دائمة وشاملة تضم دول الحوض جميعاً. ومن هنا برزت الحاجة إلى ضرورة قيام إطار قانونى ومؤسسى، بحيث يكون بمثابة دستور ملزم تحترمه كل دول الحوض، ورغم قناعة مصر بأن الاتفاقيات القائمة توفر لها غطاءً قانونياً قوياً يضمن لها حقوقها، إلا أن التوصل إلى اتفاق شامل يمثل أفضل الأوضاع والخيارات، ليس فقط لسد الطريق أمام أى خلافات مع دول المنابع بشأن الاتفاقيات القائمة، ولكن أيضاً لأنه يؤمن لأجيال المستقبل حقوقها المائية، ويؤدى إلى اتفاق دولى ملزم لجميع دول الحوض.
■ وقد تم بالفعل إعداد مشروع للإطار القانونى والمؤسسى، مكون من 39 مادة موزعة على ثلاثة أجزاء رئيسية: الأول: عن المبادئ العامة، والثانى: عن الحقوق والواجبات، والثالث: عن الهيكل المؤسسى وكيفية تسوية المنازعات وإجراءات التصديق والانضمام للمعاهدة. وقد تم الاتفاق على أغلب بنود هذا الإطار، باستثناء بندين معلقين، ولهما أهمية بالغة لتعلقهما بحقوق مصر التاريخية: البند «14» الخاص بالأمن المائى، والبند «8» الخاص بالإخطار المسبق عن المشروعات.
■ وقد استمرت اجتماعات وزراء دول حوض النيل من أجل إنهاء الإطار القانونى والمؤسسى عدة جلسات، إلى أن تم عقد اجتماع عنتيبى فى يونيو 2007 لوزراء المياه فى دول حوض النيل، حيث تم الاتفاق على رفع بند الأمن المائى لرؤساء الدول والحكومات بحوض النيل لحل الخلاف حول صياغته، وإحالة بند الإخطار المسبق عن المشروعات للهيئة الفنية الاستشارية لدول الحوض.
■ ثم تمت الدعوة لانعقاد «الاجتماع الوزارى غير العادى لوزراء المياه بدول حوض النيل» فى 22 مايو 2009 بكينشاسا، حيث فوجئ الوفد المصرى بأن دول المنابع السبع كانت تتحرك فى إطار التنسيق والترتيب فيما بينها، وتحاول ممارسة كل أنواع الضغوط على دولتى المصب، وبالأخص مصر.
■ أصرت مصر على عدم التوقيع على الإطار القانونى والمؤسسى المقترح، إلا بعد استيفاء ثلاثة شروط تتلخص فى:
1- أن يتضمن الإطار نصاً صريحاً فى البند رقم 14 الخاص بالأمن المائى، يضمن عدم المساس بحصة مصر من مياه النيل وحقوقها التاريخية.
2- أن يتضمن البند رقم 8 الخاص بالإخطار المسبق عن المشروعات المزمع إقامتها بدول أعالى النيل اتباع إجراءات البنك الدولى، مع إدراج هذه الإجراءات صراحة فى الاتفاق وليس فى الملاحق الخاصة.
3- أن يتم تعديل البند 34 أ، ب، بحيث تكون جميع القرارات الخاصة بتعديل أى بنود فى الاتفاق أو الملاحق بالإجماع وليس الأغلبية. وفى حالة إقرار مبدأ التصويت بالأغلبية، فإنه يجب أن تضم هذه الأغلبية كلاً من مصر والسودان (دولتى المصب).
■ وقد انقسمت دول حوض النيل فى الاجتماع إلى فريقين: دول المنابع السبع من ناحية، ومصر والسودان من ناحية أخرى، وهو ما كانت تتوقعه مصر.
■ فى 5 يوليو 2009 أصدرت الدول والجهات المانحة لدول حوض النيل بياناً مشتركاً حددت فيه موقفها من نتائج اجتماع كينشاسا، أهم عناصره:
1- أن الإطار يستهدف تحقيق رؤية مشتركة لجميع دول الحوض العشر لإقامة مفوضية تشمل الحوض بكامله.
2- التزام الجهات المانحة بدعم الإطار.
■ وفى 26- 27 يوليو 2009 اجتمع المجلس الوزارى السابع عشر لدول حوض النيل بالإسكندرية، وتمت مناقشة مختلف وجهات النظر، من منطلق الحرص على التشاور والاتفاق على وسائل التعاون بين دول الحوض، وفى ظل حرص مصر على التمسك بحقوقها القانونية والتاريخية من ناحية، والعمل على إزالة أى معوقات بين دول الحوض من ناحية أخرى. ورغم وجود نقطة خلاف حول سعى دول المنابع إلى تمرير اتفاق إطارى تعاونى جديد بغية إنشاء مفوضية دائمة لدول حوض النيل، بغض النظر عن مشاركة دولتى المصب (مصر والسودان)، عوضاً عن الاتفاقات القديمة لتوزيع المياه، فقد نجح المؤتمر فى ختام أعماله أن يتوصل إلى الاتفاق على:
- الاستمرار فى المفاوضات والتشاور لمدة ستة أشهر قادمة، على أن يتم الانتهاء من حسم جميع نقاط الخلاف للوصول إلى اتفاق موحد بين دول حوض النيل جميعاً.
- يحظر خلال فترة التفاوض على أى دولة من دول الحوض التوقيع على أى معاهدة جديدة بشكل منفرد دون الرجوع إلى دولتى المصب، وإلا ستكون باطلة.
- أن يكون إبرام الاتفاقية النهائية لدول حوض النيل مرهوناً بموافقة جميع الدول المعنية.
■ ورغم محاولات مصر المستمرة لإرجاء التوقيع على الاتفاق الإطارى لحين التوصل إلى حلول تراعى مصالح الجميع ولا تسبب أضراراً لها، فقد تبنت دول المنبع التوقيع عليه، وتوالت التوقيعات فى ظل معارضة شديدة من مصر.
■ ثم واصلت دول المنبع- فى السنوات الأخيرة- بقيادة إثيوبيا فرض سياسة الأمر الواقع، وجعل الاتفاقية الإطارية حقيقة، ثم بدأت تصديقات البرلمانات، فى نفس الوقت الذى واصلت فيه إثيوبيا عمليات تحويل النيل الأزرق وبناء «سد النهضة»، فى ظل احتجاجات شديدة من دولتى المصب خاصة مصر، وبالذات بعد نشر تقرير لجنة الخبراء الدولية التى كانت قد كلفت فى يونيو 2013 بتقييم موضوع السد من مختلف الجوانب الفنية للمشروع، والذى انتهى إلى تأكيد الآثار السلبية التى ستلحق بمصر فى حالة تنفيذ المشروع طبقاً للمواصفات والمراحل والمواعيد المقررة.
موقف مصر القانونى من مشروع بناء سد النهضة والاتفاقية الإطارية للتعاون لدول حوض نهر النيل (اتفاقية عنتيبى 2007):
■ انطلاقاً من الحرص على توجيه خطاب قانونى مجرد متكامل للمجتمع الدولى، بشأن مشروع سد النهضة والاتفاقية الإطارية للتعاون لدول حوض نهر النيل، سواء تمثل هذا المجتمع فى الدول صاحبة المصلحة فى تمرير هذين المشروعين والدول المعنية من أعضاء الأسرة الدولية، أو تمثل فى البنك الدولى كمؤسسة مالية دولية تقوم بتمويل المشروعات والمنشآت المائية، فإنه من الضرورى التأكيد على الجوانب القانونية الواردة بوضوح فى قواعد هلسنكى لعام 1966، ومعاهدة الأمم المتحدة للاستخدامات غير الملاحية للأنهار الدولية لعام 1997، وقواعد مؤتمر برلين حول المياه لعام 2004:
الحقوق التاريخية والمكتسبة لمصر فى مياه نهر النيل فى ضوء القواعد الدولية المستقرة بشأن استخدام مياه الأنهار الدولية..
- تعتمد فكرة الحقوق التاريخية والمكتسبة لمصر فى مياه نهر النيل على مجموعة من القواعد والمبادئ القانونية المستقرة، لعل أهمها ما يلى:
(1) مبدأ عدم الإضرار:
يستند هذا المبدأ على قاعدة مستقرة فى القانون الرومانى تفيد: «استعمل ما هو مملوك لك دون الإضرار بالآخرين». مفاد ذلك أن كل دولة مشتركة فى نهر دولى من حقها استخدام الجزء الذى يجرى بإقليمها دون إلحاق ضرر بدولة شريك فى ذات النهر. الأمر الذى جسدته المادة 21 من إعلان استكهولم بشأن البيئة والتنمية لعام 1972، حيث نصت صراحة على ضرورة تأكد الدول من أن الأنشطة التى تقوم بها فى إقليمها أو تتم تحت سيطرتها لن تتسبب فى إلحاق أى ضرر للأقاليم التى تجاوز حدود إقليم الدولة التى تقوم بالنشاط أو المشروع. كما يتأكد هذا المبدأ صراحة فى المادة 7 من اتفاقية الأمم المتحدة بشأن استخدامات المجارى المائية الدولية فى غير الشؤون الملاحية لعام 1997. ويشترط فى الضرر المقصود هنا أن يبلغ درجة من الأهمية يسهل معها اكتشافه وإثباته بأدلة موضوعية، وأن تتأثر معه معيشة السكان على ضفاف النهر لانتقاص نوعيتها أو تغييرها. وبتطبيق هذا المبدأ على وضع مصر يتضح أن المساس باستخداماتها القائمة يمثل ضرراً بالغاً لها، فى ضوء حقيقة عدم وجود موارد بديلة.
(2) مبدأ الاستخدام العادل والمعقول:
يعد هذا المبدأ من أهم معايير تقاسم مياه الأنهار الدولية، ويقصد به الحصول على أقصى المنافع الممكنة لجميع الدول المشتركة فى النهر الدولى، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا لا يعنى بأى حال التساوى الحسابى لأنصبة الدول المشتركة فى النهر الدولى. فهناك عوامل عدة ذكرتها تفصيلاً مختلف تقنيات قواعد استخدام مياه الأنهار الدولية مثل قواعد هلسنكى 1966 واتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997 وقواعد برلين 2004 يستند إليها فى تحديد النصيب العادل والمعقول، ومن أهمها الاستخدامات القائمة، والتى تمثل سنداً أساسياً من أسانيد مصر فى حماية استخداماتها لمياه نهر النيل.
(3) مبدأ الطبيعة العينية لاتفاقيات الأنهار الدولية:
يؤكد الفقه والقضاء الدوليان على الطبيعة العينية لمعاهدات تقاسم مياه الأنهار الدولية. وقد قررت لجنة القانون الدولى عند صياغة اتفاقية عام 1997 اعتبار معاهدات الأنهار الدولية من طائفة المعاهدات العينية التى لا تتأثر بالتغييرات التى تحدث فى شكل الدولة أو نظامها، فضلاً عن تأكيد محكمة العدل الدولية لذات المعنى فى حكمها الصادر فى 25 سبتمبر 1997 فى النزاع المجرى- السلوفاكى، حيث أقرت بالطبيعة العينية لمعاهدات استخدام مياه الأنهار الدولية فى غير أغراض الملاحة وخضوعها لنص المادة (12) لاتفاقية فيينا لعام 1978، والتى تؤكد عدم تأثر الاتفاقيات ذات الطابع الإقليمى بالتوارث الدولى. ويبطل هذا المبدأ أى قول بعدم التزام دول حوض النيل بالاتفاقيات السابقة على اعتبار أنها قد أبرمت فى عهود الاستعمار.
وفى ضوء المبادئ الحاكمة لفكرة الحقوق التاريخية، يمكن القول إن مبدأ الحقوق التاريخية قد استقرت عليه مبادئ القانون الدولى ذات الصلة، وأكده الفقه الدولى، وجرى عليه القضاء الدولى وأحكام المحاكم الوطنية، سواء فيما يتعلق باكتساب الإقليم والسيادة عليه فى البر والبحر، أو فيما يتعلق بحقوق الاستخدام والاستغلال، مادامت قد توافرت فيه شروط الظهور وطول المدة وعدم اعتراض ذوى المصلحة، وهى الشروط التى انتهت إليها محكمة العدل الدولية فى حكمها الصادر بشأن قضية المصائد النرويجية لعام 1951، حين قررت أن ثمة شروطاً ثلاثة يتعين توافرها للاعتداد بهذه الحقوق، وهى: وجود ممارسة ظاهرة ومستمرة للحق، يقابلها موقف سلبى من الدول الأخرى، مع استمرار هذا الموقف السلبى لفترة زمنية كافية لاستخلاص قرينة التسامح العام، والذى يبين- هذا المبدأ- الكيفية التى ارتضتها الدول المشتركة فى النهر الدولى فى اقتسام مياهه على مدى تاريخها، وهو ما يعد أمراً شديد الأهمية لتحقيق السلم والأمن الدوليين، لصلته الوثيقة بالمصالح المباشرة للدول التى تعتمد على مياه النهر فى نموها الاقتصادى والاجتماعى.
ومن هنا فإنه يتعين التأكيد على أن تمسك مصر بحقوقها التاريخية فى مياه النيل ليس مرده إلى ما ورد بشأن هذه الحقوق فى اتفاقياتها المبرمة مع دول حوض النيل ولاسيما اتفاقيتى 1929 و1959 فقط، وإنما هو أبعد من ذلك بكثير. فمرده أساساً إلى استعمال ظاهر لمياه النيل لآلاف السنين، دون وجود عائق، ودون وجود بديل حقيقى لهذه المياه، ودونما اعتراض من أى أحد كان مقيماً طوال هذا التاريخ على ضفاف النهر، ولا سيما أن المقيمين عليها خارج مصر كانوا فى غير حاجة إليها لإفراط المطر لديهم.
والواقع أنه ليس من المنطق فى شىء أن تتفق الدول الأفريقية حديثة العهد بالاستقلال فى أوائل الستينيات من القرن الماضى- عند إنشائها لمنظمة الوحدة الأفريقية- على التسليم بالحدود المتوارثة عن الاستعمار، بالرغم مما بها من عيوب وتشوهات، حفاظاً على الاستقرار فى العلاقات الدولية، ثم تشكك بعض دول حوض النيل فى صحة اتفاقيات النهر، بزعم أنها اتفاقيات استعمارية وأنها غير ملزمة بها، ومتناسية أن حقوق مصر ليس مردها إلى هذه الاتفاقيات فحسب، وإنما إلى استعمال دائم ومستمر وظاهر ومستقر لآلاف السنين، وأن التشكيك فى ذلك يهدد فعلاً الاستقرار والعلاقات بين دول الحوض.