لعلى واحد من أسعد الناس بالنصوص الخاصة بحرية الصحافة والإعلام التى أقرتها - فى القراءة الأولى - لجنة الخمسين لتعديل الدستور، فى اجتماعها أمس الأول الخميس، لأنها جاءت تتويجاً لنضال شاق ومتواصل، بدأ منذ عرفت مصر أول صحيفة «أهلية» غير حكومية عام 1869، وشارك فيه عشرات الآلاف من الصحفيين والساسة وأصحاب الرأى، وضحوا فى سبيله بالكثير من حريتهم وأرزاقهم ومستقبلهم وأحياناً حياتهم، ووصل إلى ذروته خلال المعركة التى خاضها الصحفيون والمهتمون بحرية الصحافة والإعلام ضد القانون رقم 93 لسنة 1995، والتى أدركوا خلالها أن الخطوة الأولى لتحرير الصحافة، لابد أن تكون السعى لتكوين رؤية مشتركة فيما بينهم حول ذلك، فعكفوا منذ ذلك الحين وحتى قبله على تكوين هذه الرؤية، عبر الدورات الثلاث التى عقدها مؤتمر الصحفيين فى أعوام 1991 و1996 و2004، وعبر لجان وحلقات بحث نظموها أو نظمها غيرهم لهذا الغرض، لم تقتصر على الصحفيين، بل شاركهم فيها رجال قانون وساسة ونشطاء فى منظمات المجتمع المدنى المعنية بقضايا الحريات العامة، انطلاقاً من إدراك الجميع أن حرية الصحافة والإعلام ليست مسألة فئوية تخص العاملين فى هذا المجال وحدهم، ولكنها إحدى أهم الحريات العامة الأساسية التى تكفلها الدساتير المصرية، وبالتالى فلابد أن يشارك الجميع فى التوصل إلى رؤية وطنية مشتركة حول تنظيم ممارستها. وخلال ربع القرن الماضى، نجح هؤلاء فى بلورة رؤية مشتركة تتعلق بالقوانين التى تنظم ممارسة الحق الدستورى فى حرية الصحافة والإعلام، اختصرت فى شعارات أصبح الجميع يرددونها، منها «ضمان استقلال الصحف وأجهزة الإعلام المملوكة للدولة عن كل السلطات والأحزاب، لتكون ساحة للحوار الوطنى بين الجميع»، و«إلغاء العقوبات السالبة للحرية فى جرائم النشر»، و«تنقية القوانين التى تنظم ممارسة حرية الصحف والإعلام من النصوص التى تصادر أصل الحق، والتى أقحمت عليها فى عهود الاستبداد».. إلخ.. بل وأعدوا مشروعات قوانين لذلك قدموها إلى المجالس النيابية المختلفة، ونجحوا فى تحقيق جانب من مطالبهم إلى أن أدركوا - بعد ثورة 25 يناير، وإسقاط دستور 1971 وتشكيل لجنة تأسيسية لوضع دستور جديد أنه لا حل فى مواجهة النوازع الاستبدادية المتوطنة لدى الحكومات المصرية، والاتجاهات المحافظة والمعادية للحريات داخل بعض المجالس النيابية التى تستند إليها، إلا بتضمين الدستور نفسه القدر الضرورى من التفاصيل التى تصون حرية الصحافة والإعلام، وتغل يد السلطتين التنفيذية والتشريعية عن إهدار الحق الدستورى فى حرية الصحافة، بدعوى أنها تنظمه.
وهكذا نشأت داخل المجلس الأعلى للصحافة - بتشكيله الذى كان قائماً عام 2012 فى ظل حكم الإخوان - فكرة تكليف لجنة خاصة لإعداد مقترحات بمواد يمكن تضمينها الدستور، لتحقيق هذا الهدف، وشكلت نقابة الصحفيين لجنة لهذا الغرض نفسه، لكن الهيئة التأسيسية التى وضعت الدستور المعطل كشفت من عداء وحشى لحرية الصحافة ضمن عدائها لكل الحريات، فرفضت النص على استقلال الصحف القومية، وعلى عدم جواز توقيع عقوبات سالبة للحرية فى جرائم النشر، بل وأعادت النص على جواز تعطيل الصحف بحكم قضائى، وأقحمته على مواد الدستور، بعد أن كان قد ألغى فى عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك، ووضعت الحق فى حرية الصحافة ووسائل الإعلام داخل إطارات متداخلة من القيود تهدره تماماً.
فى هذا السياق، تأتى موافقة لجنة الخمسين فى القراءة الأولى، على ثلاث مواد تتعلق مباشرة بحرية الصحافة والإعلام، استجابة للضمير العام، الذى ظل يناضل منذ ما يقرب من قرن ونصف القرن لتحرير الصحافة والإعلام، إذ هى تقر المبادئ التالية:
■ حق المصريين سواء كانوا أفراداً أو أشخاصاً اعتبارية عامة أو خاصة، فى ملكية وإصدار الصحف وإنشاء وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والإلكترونية، وهو ما يبيح الحق فى إنشاء الإذاعات والقنوات التليفزيونية الأرضية والصحف الإلكترونية، على أن تصدر الصحف الورقية بالإخطار، وبقية الوسائط بترخيص ينظمه القانون.
■ حظر فرض الرقابة بأى وجه «سواء كان إدارياً أو قضائياً» على الصحف ووسائل الإعلام المصرية أو مصادرتها أو تعطيلها أو إغلاقها، و«المصادرة هى منع عدد واحد من صحيفة من الصدور، والتعطيل هو توقيع عقوبة تمنعها من الصدور لفترة محدودة، والإلغاء هو قفلها بالضبة والمفتاح».
■ قصر الحق فى إخضاع الصحف ووسائل الإعلام للرقابة على حالة الحرب أو التعبئة العامة، وليس عند إعلان حالة الطوارئ، كما هو الحال الآن.
■ حظر توقيع عقوبة سالبة للحرية فى الجرائم التى ترتكب بطريقة النشر أو العلانية «وهذا يشمل كل الوسائل العلانية من الإذاعة والتليفزيون إلى اللافتات والهتافات»، باستثناء ثلاث جرائم هى التحريض على العنف أو التمييز أو الطعن فى الأعراض، اكتفاء بالغرامة والتعويض المدنى.
ولا أتذكر من المواد التى اقترحها المجلس الأعلى للصحافة ونقابة الصحفيين إلا النص على عدم جواز إقامة الدعوى فى جرائم النشر، إلا عن طريق الادعاء المباشر.
ولايزال الأمل قائماً فى أن يعود هذا النص فى القراءة الثانية.
ومن حق لجنة الخمسين، على كل الذين يعنيهم أمر الحريات العامة فى بلادنا وفى مقدمتها حرية الصحافة والإعلام، أن يتفاءلوا بأن اللجنة سوف تقدم للمصريين دستوراً يصون حرياتهم وكرامتهم وحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية، يليق بالبلدالذى كان أول من عرف الدساتير والصحف فى هذه المنطقة من العالم!