من بين السمات الجوهرية للدولة المصرية أنها دولة مركزية قوية، عظمتها فى قوتها وفى الفترات التى ضعفت فيها الدولة المصرية ووهنت كانت تحتل من قوة أجنبية، ومنذ تأسيس مصر الحديثة على يد محمد على ظهرت مصر الدولة المركزية القوية، بسطت سيطرتها على أراضيها، وبدأت فى التمدد الخارجى، وصلت إلى أعماق إفريقيا جنوبًا، وبسطت قوتها شرقًا، بل ناطحت القوى الأوروبية، ودخلت وسطها، ووصلت قواتها إلى جنوب أوروبا إلى أن تآمرت عليها القوى الاستعمارية الأوروبية، وتحالفت ضدها حتى كانت الهزيمة فى موقعة البحرية، التى فرضت بعدها قيودًا شديدة على القدرات العسكرية المصرية جريًا على ما كان سائدًا فى ذلك الوقت من أن المنتصر يملى شروطه على المهزوم. بعد محمد على بدأ الوهن يضرب أركان الدولة المصرية، وواصلت الدول الاستعمارية الأوروبية مؤامراتها على مصر فأغرقت فى الديون حتى تحكموا فى شؤون البلاد الداخلية، وجاء الاحتلال الإنجليزى لمصر عام ١٨٨٢ كنتيجة منطقية لوهن وضعف الدولة المصرية. من هنا نقول إن الدولة المصرية تاريخيًّا هى دولة نهرية مركزية تبسط حكومتها المركزية سلطاتها على أنحاء البلاد المختلفة، ومنذ محمد على وحتى اليوم لم تنجح جماعة أو فصيل أو إقليم فى تحدى السلطة المركزية، وعندما وهنت الدولة جرى احتلالها من قبل الإنجليز.
جاءت ثورة يوليو ١٩٥٢ لتعلن عودة الدولة المصرية القوية، جاءت لتحرر مصر من الاحتلال الإنجليزى، وتجعل من مصر قوة إقليمية فاعلة على المستويين العربى والإفريقى، وتجاوزت ذلك إلى المستوى الدولى، عندما شاركت مصر مع الهند ويوجوسلافيا فى تأسيس حركة عدم الانحياز، مرة أخرى تآمرت القوى الغربية على مصر ووقع العدوان فى الخامس من يونيو ١٩٦٧ فكانت الهزيمة العسكرية، وكان الانكسار القومى، الذى دخلت مصر بعده حالة من الضعف والوهن بعد أن تحولت إلى تابع للولايات المتحدة ومنفذ لسياستها فى المنطقة.
مرة أخرى تنتفض مصر فى الخامس والعشرين من يناير طلبًا للحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وفى القلب من كل ذلك الكرامة الوطنية التى تعنى التخلص من التبعية، وبناء دولة قوية تمارس دورها على الصعيد الإقليمى. وعندما انحرفت ثورة يناير عن مسارها الوطنى خرج الشعب المصرى فى ٣٠ يونيو ليصحح المسار، حيث أطاح بحكم المرشد والجماعة وتولى الجيش تأمين الشعب ورسم خريطة طريق لمرحلة انتقالية جديدة.
جاء رئيس مؤقت هو المستشار عدلى منصور بحكم موقعه كرئيس للمحكمة الدستورية العليا، وتشكلت حكومة مؤقتة برئاسة الدكتوذ حازم الببلاوى ومعه عدد من الوزراء المحسوبين على تيار ٣٠ يونيو، وبينما واصلت القوات المسلحة حربها على الجماعات الإرهابية مستعيدة السيطرة على معظم شمال سيناء، وبينما تواصل قوات الشرطة مكافحة الإرهاب وتأمين مصر والمصريين، فوجئنا بأيادٍ مرتعشة داخل الحكومة المصرية، ومحاولات لإضعاف قدرات الدولة المصرية فى مواجهة الجماعة ورفاقها، حديث فى غير موضعه عن الحرية والديمقراطية، حديث حق يراد به باطل، أدى كل ذلك إلى زيادة حدة وكثافة مظاهرات الجماعة وأنشطتها التخريبة، وتولد أمل لدى الجماعة بالقدرة على إرهاق الدولة المصرية وإجبارها على الرضوخ للجماعة. ولم تتوقف محاولات المرتعشة أياديهم لكبح قدرات الدولة المصرية وزيادة توقعات الجماعة بالقدرة على فرض الرأى والرؤية على الدولة المصرية، ومن قبيل ذلك الحديث المتكرر عن المصالحة بين الدولة والجماعة، وهو حديث يحول الدولة إلى جماعة والجماعة إلى دولة، الحديث عن لقاءات ومفاوضات ووساطات من «وسطاء الدم وتجاره»، وفى نفس السياق جاء الحديث عن تعديل خريطة الطريق بتقديم الانتخابات الرئاسية على البرلمانية، والمقصود من وراء ذلك كله إثارة البلبلة وإصدار إعلان دستورى جديد سيكون فى ذاته مؤشرًا على حالة الارتباك والتخبط بل والعجز، ولعل أخطر الأفكار المطروحة من قبل فريق إضعاف الدولة المصرية، الدعوة إلى تأجيل محاكمة الرئيس المعزول محمد مرسى خوفًا من القلاقل التى سوف يثيرها أنصار الجماعة، وهى دعوة خبيثة تستهدف إظهار الدولة المصرية فى مظهر الضعف والوهن والعجز عن مجرد تأمين محاكمة الرئيس المعزول، وسوف تكون فى الوقت نفسه علامة نصر لمخطط الجماعة على طريق إرهاق الدولة المصرية على طريق إجبارها على الاستسلام. المؤكد أن الدولة المصرية قوية، وبدأت فى استعادة قوتها وقدرتها، المهم هنا أن تواصل الدولة المصرية عملها ولا تتوقف أمام دعوات وأفكار تستهدف تعطيل المسار وإضعاف الدولة المصرية.