اتصل بي صديق مصري يحمل جنسية دولة أوروبية بينما يشكو لي الحال المتردية التي وصل إليها، فقد بلغت ديونه للبنوك الإنجليزية مرحلة متقدمة جدا، وأصبح وقته موزعا بين عمله ولقاءات مكثفة مع موظفي البنوك لإعادة جدولة ديونه وفوائدها.
صديقي أحمد بخفة دمه قال: لا تقلق لن يسجنوني، فالإجراء المتبع في حال فشلت أنا وذريتي وذريتهم من بعدهم في سداد كل هذه المبالغ، هو أن أعلن إفلاسي..«وأنا صايع ولا يهمني.. ومعنديش أزمة أعلن إفلاسي!».. هكذا أضاف في وقار يليق بمصري مأزوم وليس لديه ما يخسره.
جرنا الحديث إلى الاقتصاد العالمي وطبائعه ومحدداته والعوامل النفسية والخيالية التي تتحكم فيه فيما هو أبعد من معرفتنا المباشرة والضيقة.
بمقارنة الوضع في مصر، كانت صور زملائي المستدينين من البنوك تمر أمام عيني في عرض بانورامي لطيف، بينما كل منهم يرتدي بذلة السجن الزرقاء ويحمل رقما على صدره، بعد فشله في سداد مديونيته أو قرضه للبنك الذي يتعامل معه. (وعلى رأسهم صديق يدعى أحمد للمصادفة!)
فقروض البنوك الأجنبية تقوم على النسبة والتناسب بين قيمة راتبك والنسبة التي يمكن اقتطاعها منه شهريا بصورة منتظمة كقسط ثابت، وهو الأمر الذي شجع الكثيرين للاستدانة بمبالغ محترمة، لأجل الزواج أو لشراء سيارة أو حتى لعلاج فرد من أسرته علاجا من هذا الطراز الذي لا توفره الدولة المصرية!
أنا أحكي لك عن أسماء حقيقية وقصص واقعية لأصدقاء اضطرتهم الحاجة للجوء إلى هذا الحل السحري، الذي يبدو أنه سيتحول على المدى القريب إلى كابوس جاثومي.
فربما تسفر السنوات الخمس القادمة عن نسب مقاضاة مرتفعة بين عدد من البنوك الأجنبية العاملة في مصر ومواطنين مصريين استدانوا منها على ضوء تسهيلات ربما لن تتوفر بنفس القدر مع الظروف المتقلبة التي نعايشها، فضلا عن تشكيك الكثيرين في «نزاهة» المبالغ التي تطالبهم البنوك بسدادها ومدى استحقاقها فعلا.
والأمر لا ينحصر في «لوع» البنوك (بنوك بعينها سمعتها بشعة) أو ضبابية العملية الحسابية التي يتم بموجبها حسبان المبالغ وزيادتها ثم زيادة الزيادة، بمقدار ما هي الحاجة التي دفعت طالبي القروض إلى الموافقة السريعة والعمياء دون فهم طريقة الحساب كاملة، أو حتى مع فهمها، ففي لحظات بعينها في حياة الإنسان، لا يهمه إلا المال الذي سيسد به احتياجه المباشر والآني..«وبعد كده يحلها الحلال.. وتفرج».
في فنزويلا، وقبل أيام قليلة، أعلن الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو عزمه تشكيل وزارة جديدة للسعادة بهدف تعزيز مستوى الرفاهية في البلاد، خصوصاً بين الأطفال وكبار السن.
وتضطلع «وزارة السعادة» بمهام التأمين الاجتماعي والحفاظ على كبار السن وإدخال البهجة والسرور عليهم.. ورغم أن هذه الخطوة الذكية والخيالية والرومانسية اعتبرت جزءًا من الدعاية الانتخابية لمادورو، إلا أن المدلول أو الشاهد الكامن وراءها لا يجوز إغفاله.
ففي فترة التحول التاريخي التي نعايشها –رغم مأساوية كثير من تفاصيلها- لا ينبغي إغفال ضرورة هيكلة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، في عمليات علاج متعددة المستويات، ليس سنامها إعادة هيكلة الأجور فحسب، بمقدار ما يستدعي الأمر النظر لطبيعة العلاقات المالية التي تربط فئات وطبقات المجتمع ببعضها البعض.
فعلى مدونة المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، تقول فاطمة رمضان مسؤولة ملف العمل «لقد بدأت أصواتٌ تتصاعد بين رجال الأعمال عن مخاطر تطبيق الحد الأدنى، ويزعمون أنه سيؤثر على الاستثمارات في السياحة والملابس وغيرها من الصناعات كثيفة العمالة، وسيقلل من تنافسيتها ويرددون أنها صناعات مأزومة من الأساس، وبعضهم يطالب بحد أدنى يتفاوت بين الصناعات، بل وبين المحافظات. أما مخاوف العمال من زيادة معدل التضخم فعظيمة، ويرددون أن انفجارات الأسعار - التي عادة ما تصاحب زيادة الأجر – حتميًّا ستلتهم ما زاد من جنيهات، لتضيع ويمحي أثرها في تحسين مستوياتهم المعيشية ودعم قدرتهم الشرائية».
الحكاية لا يجوز حصرها في علاقة عمال بأصحاب مصانع، ولا موظفي الطبقة الوسطى من العاملين في مؤسسات أجنبية أو مؤسسات ذوات سمع مالية وجيهة أصبحوا أسارى قروض بنكية أخطبوطية، على حسب ما أوردنا في هذين النموذجين، بمقدار ما هي وظيفة دولة في إيجاد ضابط اجتماعي انتقالي، بين فئات المديونين والمتضررين، جراء سنوات الضيم التي لم تفلح ثورتان حتى الآن في إصلاح وتدارك آثارها.
وحل الأمر ربما لا يكون في إسقاط الديون عن فئات بعينها كالغارمات أو سائقي التاكسي الأبيض أو خلافه، بمقدار ما يتطلب بحثًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا جذريًّا يكون موضوعه الحقيقي: لماذا غرمت الغارمات؟ ولماذا تعقدت علاقة أصحاب التاكسي الأبيض بدائنيهم؟ ولماذا جرت نماذج كثيرة، كلها مرجوعة لعوار الضابط الاجتماعي والاقتصادي في العلاقات بين «قطط مصر السمان» ومواطنيها البسطاء.. الذين لا يريدون من الحياة.. إلا الحياة.