مساء غد تُعلَن جوائز مهرجان أبو ظبى السينمائى الدولى، ويبقى دائمًا الحديث عن تكهُّنات الجوائز يملأ الأجواء، ومن واقع خبرتى، فإن الاختيار بين الأفلام التى تستحق تبدو صعبة المنال، ومن يحصل على «اللؤلؤة السوداء» الجائزة الكبرى، ليس هو بالضرورة الأفضل، فلا يمكن أن نُغفِل أن مِزاج لجنة التحكيم يلعب دورًا، وتلك الكيمائية بين أعضاء اللجنة من الممكن أن تسهم فى توجيه مسار الجائزة وتحدد أيضًا التوجه.
ورغم كل تلك العوامل فإن هناك فيلمًا لم أستطع حتى كتابة هذه السطور أن أتجاوز إحساسى بأحقيته المطلقة بالجائزة، إنه الفيلم البوسنى «فصل من حياة جامع الخُردة» للمخرج دانيس تانوفيتش، وهى نفس الدولة التى قدمت للعالم مُخرِجًا استثنائيًّا قبل ربع قرن هو أمير كوستاريكا الحائز على سعفة كان مرتين.
دانيس حالة فنية أخرى، بقدر ما هو مختلف فهو صادق، كوستاريكا دائمًا يصنع سحرًا يغلِّف الحدث تلعب فيه الموسيقى وخفة الظل والفانتازيا دور البطولة، تشعر أن أفلامه لها معطف خارجى ولون محدد ترتديه، كما أن لأبطاله ملامح ثابته تتكرر، بينما دانيس فى أفلامه سحر داخلى ينضح فى العمق ويرسم تفاصيله على الخارج، أفلامه تُلغِى تمامًا الإحساس السينمائى، فأنت لا تتعامل مع ممثلين محترفين ولا مع مخرج ترى إبداعه فى موقف درامى مباشرة فى زاوية رؤية أو تكوين، ولكنه ينساب ببساطة داخل الكادر كأنك بصدد سينما تخاصم السينما. من بين أفلامه السابقة شاهدت له «أرض محايدة» و«سيرك كولومبيا»، وجدت ترسيخا لتلك الحالة التى تبدو أشد وضوحا فى «جامع الخُردة».
لا يتبع المخرج منهج «الدوجما» حرفيًّا، لأن تلك المدرسة يتضاءل تمامًا فى نسيجها السينمائى المؤثرات الخارجية، ومن أشهر أعلامها الدنماركى لارس فون تراير، كل شىء فى منهج «الدوجما» طبيعى، الديكور والإضاءة لا يفرضهما المخرج، ولكن المكان الواقعى هو الذى يطرح نفسه والقطع من لقطة إلى أخرى نادرا ما يلجأ إليه كوسيلة فى التعبير، لأن حركة الكاميرا المحمولة هى التى تلعب دور البطولة فى السرد السينمائى، وينحسر تمامًا استخدام الموسيقى، إلا أن ما قدمه البوسنى دانيس يتجاوز كل ذلك، فلا نرى ممثلين فى الفيلم بقدر ما نشاهد حالات حقيقية، ولا يعنى ذلك أن المخرج اختار أبطال الواقعة التى نحن بصددها وأسند إليهم بطولة الفيلم، ولكن استطاع أن يختار ممثلين يحافظون على الطبيعية فى الأداء، سمح لبطليه الرجل وزوجته بالانطلاق وترك مساحة للطفلتين اللتين تؤدِّيان دور ابنتيهما فى التحرك أمام الكاميرا كما يحلو لهما.
نقطة الانطلاق هى الزوجة، وبذكاء اختارها المخرج لكى تفرض ملامحها القوة، فأنت بصدد امرأة قليلة الحوار، علامات الصحة بادية على جسدها، تصنع العشاء الساخن البسيط للأسرة الصغيرة، رب الأسرة يعمل فى بيع الخردة هو وعدد ممن يشاركونه العيش فى تلك المنطقة الجليدية النائية فى البوسنة، إنهم يحصلون على السيارات القديمة ويبدؤون فى تقطيعها لبيعها قطعًا صغيرة مقابل أموال قليلة ينفقون بها على حياتهم الخالية من أى مظهر للثراء، ما يجمعهم هو شظف العيش وقسوة الطبيعة، لهذا ينبغى أن يمدّوا أياديهم بالقليل الذى يتوفر لديهم.
المرأة تحمل جنينًا قد فارق الحياة، مما يعرِّض حياتها كلما مر الزمن أكثر للخطر. الواقعة حقيقية والدولة لا تقدِّم العلاج المجانى إلا ببطاقة تأمين صحى، وليس أمام الفقراء سوى التحايل، ونكتشف أننا كمشاهدين أيضًا متورطون فى جريمة التحايل، وتجرى الجراحة باستخدام بطاقة مزورة، ويتبقى مصاريف العلاج، ولا يجد أمامه سوى أن يبيع عربته القديمة بعد أن يقطّع أوصالها هو والجيران إلى خُردة.
القضية -كما هو واضح- من الملف الصحفى، حدثت قبل سنوات وأعادها المخرج إلى الحياة لكى يفضح الدولة التى تترك مواطنيها معرَّضين للموت، وهى مأساة تمسّ مشاعرنا لأننا نعايشها فى بلادنا.
ترى فى الفيلم مَشاهد تتكرر مثل إزالة الجليد العالق بزجاج السيارة أكثر من مرة، وفى قانون الدراما أن المعلومة تُقدِّمها مرة واحدة، ولكن لأننا بصدد حالة نعيشها بتفاصيلها الواقعية يصبح هذا التكرار هو ما يمنح الفيلم تلك الخصوصية وذلك السحر الذى يتسلل إلينا، تلك اللمحات التى جعلتنا بصدد سينما تخاصم السينما بمعناها المتعارَف عليه، ولكنها تصالح الإبداع وتستحق «اللؤلؤة السوداء».