هبطت الطائرة مطار موسكو، ونزل أعضاء وفد الدبلوماسية المصرية الشعبية، ليلقى استقبالا حافلا من الخارجية الروسية، كان الروس أكثر رغبة منا فى التقاء الشعبين، وعودة العلاقات إلى سابق عهدها، وكان اسم الزعيم عبدالناصر هو الذى يواجهنا فى كل مكان ذهبنا إليه، فالكل فى موسكو يتحدث عن عبدالناصر بإجلال وإكبار، والكل يسأل عن المشاريع التى أنشأها الروس فى مصر، وما آلت إليه وكأنهم يسألون عن حبيبة غائبة.
كانت الصورة النمطية التى تكونت فى ذهنى عن الشعب الروسى أنه شعب جامد لا قلب له ولا مشاعر، ويبدو أن برودة الجو هناك هى التى أورثتنا هذا الإحساس وكأن من يعيش حياة جادة شاقة فى جو قارس البرودة لا ينبغى له أن يكون صاحب قلب، ولكننى فوجئت بشعب له مشاعر دافئة بددت برودة الجو، كانت الحوارات بيننا وبينهم حميمية، وكأننا نتحدث مع أخوة عرب يشعرون بنا ويفهمون ثقافتنا ويدركون تطلعات شعبنا، حتى إن أحد كبار المسؤولين الروس تحدث معنا عن الشعر المصرى الذى تمت ترجمته إلى الروسية، وذكر لنا قدر تأثر الروس بشعر عبدالرحمن الخميسى، وإبداعات عبد الرحمن الشرقاوى.
وفى مبنى الخارجية الروسية العريق كان اللقاء الأول مع السيد «ميخائيل بوجدانوف» الممثل الشخصى للرئيس بوتين فى الشرق الأوسط، وكنت قد عرفت من السفير رؤوف سعدـ سفير مصر السابق فى روسياـ أن بوجدانوف هذا هو من أكثر الشخصيات الروسية تأثيرا على القرار الروسى فيما يتعلق بالشرق الأوسط، وقد كان فى يوم من الأيام سفيرا لروسيا فى مصر، وكان مع «بوجدانوف» فى اللقاء السيد «إلكسندر دزا سوخوف» وهو من أقدم الشخصيات الدبلوماسية فى روسيا كما أنه المختص الأول والأكبر بملف «سوريا» فى الحكومة الروسية.
كان السيد بوجدانوف يعرفنى وإن لم نكن قد التقينا من قبل، فقد تعارفنا عن بعد عن طريق السيدة منى عبدالملك خليل ابنة الصحفى الكبير المرحوم عبد الملك خليل، فمنى هى ابنة خالة بوجدانوف، وكان قد طلب منها منذ شهور نسخة من كتاب «سر المعبد» على أن يكون عليها توقيعى فتواصلت معى السيدة منى وأعطيتها الكتاب، وعلمت وقتها أن بوجدانوف يجيد اللغة العربية، كما عرفت بعدها أن الرئيس بوتين طلب من مكتبه ترجمة نسخة من الكتاب له حتى يقرأه، وكان من دهشتى أن أحضر لى سكرتير السيد بوجدانوف ـ بعد لقائنا معه ـ نسخة من كتاب سر المعبد كى أوقع عليه إهداءً للرئيس بوتين وهو الأمر الذى أثلج صدرى.
وبدأنا الحوار وكان أول ما طرق سمعنا عبارة لبوجدانوف كانت بمثابة «البوابة المفتوحة» قال فيها بصراحة «إن أعظم ما قام به الشعب المصرى هو ثورته على الإخوان لأنها فى حقيقتها ثورة على المشروع الأمريكى الاستعمارى، ثورة المصريين لم تنقذ مصر فقط، ولكن أنقذت العالم كله».
وكانت الكلمة الثانية قد صدرت من السيد إلكسندر دزا سوخوف حيث قال «إن ما حدث فى مصر ضد الإخوان كان ثورة رائعة كاملة، ثورة شعب أدرك خطورة هذا الحكم فخرج بصورة لم تحدث فى التاريخ ليثور على جماعة إرهابية أرادت أن تتحكم فيه، ومن يقول إن ما حدث انقلاب إما جاهل أو مغرض أو طرف فى المؤامرة الأمريكية على المنطقة».
والحق أن الوفد المصرى كان على أعلى مستوى ممكن، فقد قام السفير السابق رؤوف سعد بدور كبير نظرا لصداقته لكل كبار المسؤولين الروس، وكان لوجود الفنان عزت العلايلى معنا أكبر الأثر فقد فوجئت بشعبية طاغية له هناك، حتى إن السيد بوجدانوف هب واقفا عندما رآه وهو يصيح: «عزت العلايلى.. الأرض، أنت فنان عظيم» وكان لحديث عزت العلايلى فى الفن ودوره فى التقريب بين الشعوب أكبر الأثر فى إضافة لمحة رائعة للوفد.
كان وفدنا متكاملا يضم ثقافات ومشارب متنوعة ولكن الكل جاء ليعمل لصالح مصر وحدها، لا لصالح حزب أو جماعة أو فريق أو شخص، ولا أحدثكم عن حكمة الكاتب الكبير محمد سلماوى وبساطته وثقته فى نفسه وثقافته الموسوعية وتميزه وهو يشرح لكبار المسؤولين الروس عن خارطة الطريق المصرية، وكان نافذا وهو يقول لهم: ما جئنا لندافع عن ثورتنا، ولكن جئنا لنتكلم عن القادم، وعن وجوب أن تكون روسيا طرفا أصيلا فى المنطقة، لا بديلا، فنحن لا نبحث عن البدلاء ولكن نبحث عن الشركاء الأصليين الذين ساعدونا فى السابق ولم يذهبوا بنا من قبل إلى صندوق النقد الدولى، أو يفرضوا علينا شروطا تعجيزية، ورغم اختلافى النقابى الكبير مع الأستاذ سامح عاشور نقيب المحامين إلا أننى لا يمكن أن أخفى إعجابى بقدرته العالية ومنطقه الرائع وهو يشرح بتمكن وسلاسة وأدب أن روسيا تحتاجنا أكثر مما نحتاجها، وأننا لم نأت لنتسول أو نطلب معونة، فشعبنا قادر على حل مشاكله الاقتصادية، وأننا أيضا لا نريد من روسيا أن تدخل فى معارك دولية من أجلنا، ولكننا نطلب دعمها المعنوى، كما نطلب منها أن تشاركنا فى إعادة بناء الدولة، ونحن على ثقة من أنها ستكون المستفيد الأول لأنها ستعود مرة أخرى كدولة عظمى بعد أن ظلت لسنوات دولة كبرى، خاصة أن عدم التوازن الدولى لغياب روسياـ بعد أن تم تفكيكها ـ جعل أمريكا تسير بخطى سريعة فى مخططها الذى يرمى لخلق دويلات دينية تحقق مصالحها، وفى ذات الوقت تكون مبررا دوليا لاستمرار دولة إسرائيل الدينية، وكان لكلام سامح عاشور رد فعل إيجابى ومثمر لدى بوجدانوف وذا سوخوف.
وكان من الضرورى أن نتحدث عن السياحة، فأفواج السياح الروس انقطعت عن مصر بسبب أعمال الإرهاب التى قام ويقوم بها الإخوان، وكان معنا فى الوفد رجل الأعمال كامل أبو على الذى تحدث عن الغردقة وشرم الشيخ حديث العالمين، وعن خطورة أن تظل السياحة الروسية محجوبة عن مصر لأن هذا الحجب سيترتب عليه التأثير على مصر اقتصاديا مما سيمكن للمشروع الإخوانى الذى يستهدف إسقاط مصر.
ومن حسن الطالع أن انضم إلينا فى الوفد اللواء أحمد عبد الله محافظ البحر الأحمر الذى كان فى مهمة رسمية للدولة فى أوكرانيا، وكان لوجوده أعظم الأثر فى إعادة فتح أبواب السياحة الروسية لمصر مرة أخرى حتى إن وزير السياحة الروسى أصدر عقب زيارتنا لروسيا تصريحا بأن منطقة الغردقة وشرم الشيخ آمنة تماما وأنه لا مانع لديه من عودة السياحة الروسية لمصر مرة أخرى.
قد ينتهى المقال ولا ينتهى الحديث عن هذه الرحلة، وأظنك قد وجدتنى أنهى المقالة فجأة وما ذلك إلا لأننى تجاوزت المساحة المخصصة لها، ولكن لنا عودة إن شاء الله.