هل يفضح هذا الفيلم «فيلومينا» الذى شاهدته فى المسابقة الرسمية لمهرجان «أبوظبى» الاتّجار بالدين؟ نعم، شىء من هذا ستراه. هل هو يحيلنا إلى سؤال عن ماضٍ عميق عشناه، وكلما ابتعدنا عنه ازددنا قُربًا وحنينًا إليه؟من الممكن أن تجد بالفعل ما يؤكد هذا الإحساس.
هل نحن نريد الحقيقة مهما كانت مُرَّة أم حلوة أم أن ما نبحث عنه هو الحقيقة التى فى صالحنا وإذا لم تكن كذلك فما جدوى الحصول عليها والوصول إليها؟
عندما يبلغ ابنها الخمسين من عمره تقرر بطلة الفيلم البحث عنه، لا يربطها به سوى صورة لطفل لم يتعدَّ السنوات الأربع، ويتبقى أيضا قُبُلات من الذاكرة تجمع بينهما. الممثلة العبقرية جودى دينش تؤدى هذا الدور وتنجح فى اقتناص أدق التفاصيل فى التعبير، تبدأ الأحداث وهى فى بواكير المراهقة حيث تستضيفها الراهبات فى الدير مع عدد آخر من الفقيرات اللاتى يبحثن عن مأوى، وتدرك الراهبة بالطبع أن للغريزة نداءً لا يمكن تجاهله، ولهذا يقع الاختيار فى العادة على الحوامل ليصبح الأمر بعد ذلك مهيَّئًا لكى يتم استثمار الأطفال، بعد أن توقع الأمهات، ليس فقط عن التنازل ولكن على أنها أيضا لن تبحث عنه مجددا.
حرص المخرج ستيفن فريز على أن يمنحنا من خلال تفاصيل الصورة الإحساس بالزمن الماضى مع بزوغ الخمسينيات حتى نصل إلى شاطئ التسعينيات، نرى بطلة الفيلم فى شبابها فى لحظة الولادة لنقترب من عدد ممن يرفعون شعار الرحمة بينما قلوبهم مظلمة قاسية، مثلا كبيرة الراهبات تعتبر أن الإحساس بالألم فى أثناء الولادة يعنى عقابا من الله على ممارسة الرذيلة.
المقابر الملحَقة بالدير تبدو فى جانب منها شاهد إثبات على أن هؤلاء يتاجرون فى البشر. يمنحنا السيناريو بعض ومضات لما يجرى فى الدير حتى تكتمل الصورة فى نهاية الحدث.
يختار المخرج لحظة فارقة لتصبح هى ضربة البداية، جودى دينش تُمسك بصورة لابنها وهو طفل لتعلن أنه يبلغ الآن الخمسين من عمره ولكن ذكرياتها معه توقفت فقط عند حدود الطفولة، إنها أيضا لا تبحث عن زمن طفلها ولكن تكتشف زمنها الذى لم تعشه. فهى تخطو إلى نهايات العمر تبحث عن ابنها الذى سرقوه وعمرها المسروق.
فى هذا الإطار التشويقى تصبح المعلومة الدرامية التى تأتى عادة مع كلمة النهاية هى فصل الختام، المتلقى فى العادة ينتظر مصير الطفل، وتذهب إلى أمريكا ومعها صحفى من الـ«بى بى سى» الذى أدى دوره ستيف كوجل فهو قد تقاعد مهنيًّا ويريد العودة لصاحبة الجلالة بقصة مثيرة.
الحقيقة فى الفيلم ليست هى مصير الابن، الإجابة عرفناها فى النصف الثانى، فلقد وصل إلى أرفع المناصب فى دائرة الرئاسة الأمريكية مع كل من ريجن وبوش ولكن على المستوى الشخصى تكتشف الأم أنه كان شاذًّا، تصدمها الحقيقة ولكنها تتحايل عليها، فلقد مات مبكرا لإصابته بالإيدز.
يُصبح السؤال الذى تبحث عنه هو حياته الماضية، هل ظلت أمه فى ذاكرته؟ لنكتشف أنه ذهب إلى الدير، كان يتمنى رؤيتها ولكنهم خدعوه، وكانت رغبته أن يتم دفنه فى نفس الدير الذى شهد ميلاده.
إننا نعيش الحقيقة العميقة لا ظاهر الحقيقة، ما الذى حدث فى الدير قبل نصف قرن؟ الراهبة العجوز التى شهدت تلك الواقعة لا تعترف بذنبها وتعتبر أن حمل جودى دينش سفاحًا هو الخطيئة التى لا تُغتفَر بينما تسامحها جودى دينش وتغفر لها الاتجار بطفلها.
ويبقى من لمحات هذا المخرج أنه استند فى بنائه السينمائى إلى سيناريو مراوغ يمنحنا خيطا بينما الهدف أبعد بكثير مما أمسكته أيادينا، إنه يفضح بهمس ونعومة ما يجرى فى الدير والعلاقة مع الله، هناك دائما لمحات من خفة الظل وشىء من الشاعرية فى تلك الثنائية بين الصحفى والأم، لم يصل أبدا إلى الإسراف فى الميلودرامية رغم ما يملكه السيناريو من مقومات تميل إلى الميلودراما، أسلوب السرد الوثائقى بين الحقيقة التى نراها فى شريط الفيديو والتتابع الدرامى أمسك بها المخرج بحرفية عالية، ويبقى فى الذاكرة تلك العبقرية جودى دينش التى تتباهى بتجاعيدها والكاميرا كانت حريصة على أن تحببنا فى تلك التجاعيد، فمتى تحب نجماتنا تجاعيدهن.. متى؟