مع نكسة يونيه، انطلقت الأقلام ناقدة نظام مصر، وتطوع رقيب فمنع قصائد نزار عن النكسة، وبطريقة ما علم عبد الناصر فما كان منه إلا أن أصر قرارًا بإلغاء المنع، ومراسلة الشاعر وإبلاغه بأنه مرحب به في مصر، وليس هذا جديدًا على عملاق بحجم عبد الناصر، ولا على دولة العمالقة مصر، لكنه أحد معايير الدولة الحديثة التي تؤمن بحقوق مواطنيها كاملة غير منقوصة، مع الوضع في الاعتبار أن نزار لم يكن مصريا... لكن هذا قدر العمالقة.
في فيلم "الشيظان يعظ" تجد الجميع يسعون ليكونوا فتوات، دون أن يلتفتوا إلى أن العالم لن يسع كل هذا القدر من الفتوات، ولا أن لكل مقدرات إن أحسن استغلالها فهو فتوة في مجاله، والأخطر أن كل من يسعى ليكون فتوة أو مشدودًا يخسر الأمرين؛ مهنته التي يبرع فيها، وحلمه بالفتونة، وكثيرًا ما يخسر روحه، ولو علمت بذلك دويلة الغاز الطبيعي لكان لها خير وفير، لكن قدر الأقزام الجهل وإنكار الحقيقة فالقط لا يكون أسدًالأنه امتلك جلده.
وعند قراءة حادثة (وليس حكم) السجن لشاعر قطري لأنه أهان الذات الملكية نجد أمامنا هذه النتيجة من خلال ما يلي:
١- نحن أمام (وسية) عار على أطلس العالم أن يسميها دولة، فلا أصحاب الوسية قرأوا شيئًا من التراث الإنساني،، ولا من الحضارة الإسلامية ولا من الثقافات السائدة الآن؛ أما عرفوا كيف كانت ديمقراطية أثينا؟ أما رأوا تواضع رسولنا وكيفية رده على منتقديه، وكيف سار خليفته أبوبكر رضي الله عنه ممسكا بعنوان جواد يركبه فتى في السابعة عشرة من عمره، وهذا الفتى ابن عبد سابق، وكيف قال عمر رضي الله عنه على منبره: "أصابت امرأة وأخطأ عمر"؟ أما قرأ أحد لهم ما سطرته أقلام صحفي مبتدئ في أوروبا أو أمريكا نقدًا لحاكمه.
٢- نحن أمام مجموعة بشرية تحكم على أنها قطعان خراف وكل ما لديها من تقنيات حديثة وبرمجيات متطورة، ما هو إلا مظاهر لا تدل بحال على جوهر، بل يعرفها الفلاحون ومربو الماشية في مصر؛ لأنهم يضعون في آذان أنعامهم أقراط هدل على السن والمالك ونوع التطعيم، فكيف يستقيم وقف عائدات بئر غاز طبيعي أو بترول مع حبس معلم للجمال ورافض للتخلف.
٣- نحن أمام جماعة لا تعرف شيئا عن حقوق الإنسان، ومنها حق إبداء الرأي حرية التعبير، وأن ما تتشدق به تلك الجماعة في المحافل يجب أن يرد عليه بجملة واحدة: فاقد الشيء لا يعطيه.
٤- الإبداع لا يحاكم بما يحاكم به غيره، وهذا أمر لا يتأتى لجاهل أن يعقله؛ وأظنه سيكون ضربا من المحال أن أطلب من حاكمي هذه الجماعة أن يعودوا لقصة الحطيئة والزبرقان بن عدي أو الفرزدق وهشام بن عبد الملك. ربما صدر عفو عن الشاعر، وربما اعتذر، وربما خففت عقوبته، لكن وصمة العار لن تمحى، فكيف يتم احتساب هذه الجماعة من العرب؟ وكيف يتم التعامل معها على أنها بشر من الأصل؟ فحتى المجتمعات البدائية تتعامل مع الشاعر على أنه عين الحق وصوت الكمال.
قدر العمالقة معرفة أن: "كل فعل بشري معرض للنقد، وعلى كل أمة أرادت التقدم أن تضع الفكر الناقد في مكانه السامي، وعليها أن تبذل جهدها لتصويب ما رآه الناقد خطأ، وعليها أن تعلم أن التاريخ يراقب تعاملها مع النقد ليثبتها في عمالقة الدول أو في أقزامها".