التغير الإيجابى الذى أحدثه برنامج «البرنامج» لم يقتصر على توسيع حدود الانتقاد السياسى، إنما أيضا فى استخدام السخرية، لا شىء غيرها، وسيلة إلى ذلك. هذا شعب يحب ابن النكتة وبنتها، ولا يتوقف عن القفشات واللعب على الكلام و«القلش». ومن النادر أن لا تكون أول صفة يوصف بها المصريون من الغرباء أنه شعب «كوميدى». وبالتالى فإن السخرية كانت دومًا أداة المصريين الشعبية لانتقاد الحكام. لكنها لم تصل إعلاميا إلى أبعد من حدود الكاريكاتير، أو الأغنية الـ«أندرجراوند» الساخرة. برنامج «البرنامج» نقلها إلى «التليفزيون».
المصريون استجابوا لذلك فورا، فكان وقت إذاعة «البرنامج» خلال الموسم الماضى أشبه بوقت مباريات المنتخب. كما صار موعدا للتلاقى «خلاص نتقابل على برنامج باسم يوسف».
النجاح المتميز الثانى لبرنامج باسم يوسف كان شخصية مقدمه. لماذا؟ لأنه قادم من خارج الوسط الإعلامى. إنسان عادى، يمتلك موهبة، وإيمانا بهذه الموهبة، ويقرر مع مجموعة من الزملاء أن ينفذوها، بإمكانات قليلة جدا، وعلى النت لا أكثر. ثم يكبر الحلم، وينتقل من «يوتيوب» إلى التليفزيون. ثم من الاستوديو الصغير إلى استوديو كبير وبجمهور. ويصير أول برنامج من نوعه فى المنطقة العربية.
سلوك المبادرة الفردية هذا تحتاج إليه الشعوب الخارجة من الوصاية أكثر من أى سلوك آخر. سلوك أن تجرِّبى، على مسؤوليتك، سلوك أن تتخذى الخطوة الأولى تجاه حلمك، ثم الثانية فالثالثة.
أما ما خلف الكاميرات، كما يحكِى مَن على اطلاع بهذا الجانب، فهناك فريق يأخذ عمله بمنتهى الجدية، وبرنامج مكتوب ومجهَّز له لكى يبدو تلقائيا. والتلقائية أكثر شىء فى الإعلام يحتاج إلى تحضير. فريق البرنامج يجرى قبل التسجيل عدة بروفات، تماما كأنهم سيقدمون عرضا مسرحيا، ولذلك يصور البرنامج أمام الجمهور كأنه «لايف». مَن تعرف الوسط الإعلامى المصرى، بل معظم أوساط العمل فى مصر، تعرف أن «الاستسهال» داؤها. الموهوبون يعتمدون على الموهبة فقط، وسرعان ما تنتقل من خانة الموهبة إلى خانة الفهلوة. وغير الموهوبين يعتمدون على «الطلسأة»، أى التلفيق من هنا وهناك.
مع كل ما سبق، اعتبرت دومًا أن برنامج البرنامج أفضل حدث ثقافى عام شهدته مصر منذ ٢٥ يناير ٢٠١١. لأنه، كما الفكرة الشابة، يفتت صورة الزعيم الأب. لا أحد فوق الانتقاد. وفى نفس الوقت، لا نجاح بلا موهبة وحِرفية ودأب ومبادرة شخصية.
نقلُ برنامج باسم يوسف من هذه الخانة إلى خانة «التصنيف السياسى» سيقضى عليه. هذا النقل يحاوله خصومه، لأسباب مفهومة. لكنهم ليسوا الجانى الوحيد.
فريق العمل نفسه يقع فى هذا الخطأ. ولا أدرى لماذا يصر باسم علَى بث الرسائل المباشرة، وتحويل نفسه إلى زعيم سياسى، أو إلى متحدث باسم تيار سياسى بعينه، أو إلى إخبارنا بانحيازاته الشخصية وما ينوى أن يفعل وما لا ينوى. لدى باسم مقال أسبوعى يستطيع أن يفعل فيه ذلك كما يشاء. إنما الانتقال من اللغة الفنية إلى اللغة الخطابية انتقال من خانة الفن إلى خانة الدعاية. وتقييد تطوعى للمفتوح. اللغة المباشرة تعكس عدم ثقة لدى المبدعين فى أن «رسالتهم» وصلت. مع أنها وصلت. ثِقوا تماما. وهى أعمق من السطرين التافهين اللى بتحشروهم فى الحلقة.
ربما لأن البرنامج -حتى الآن- وحيد فريد فى الساحة. لا يضطر إلى منافسة أحد. ولا يخشى من انتقال جمهوره إلى برنامج منافس. ليس هذا جيدا لبرنامج «البرنامج». كلنا نحتاج إلى منافسة لكى نتحسن، ولكى يستمر استمتاعنا بعملنا تحت ضغط التجديد والتحديث والمراجعة.
وهو ليس جيدا لـ«خصوم» البرنامج أيضا. لماذا؟ لأنهم هيزهقونا نفسنة وتقطيم وشتيمة. بدل ما يورونا «نموذجا» لما يريدون. بدل أن ينافسوا بهذا النموذج، ونشوف الشعبية فين. هل فى صالح السلطة الآمرة الناهية الوحيدة الفريدة نصف الإله، أم فى صالح السلطة بشروط جديدة، أم لصالح شىء آخر تماما. مش هنعرف الشعور الشعبى إلا بالمنافسة. وعلشان كده السلطويون مابيحبوش المنافسة. بيحبوا الانفراد بالساحة. لأن دا اللى بيسمح لهم بإطلاق الادعاءات غير المختبَرة.