ختمت سطور أمس بأننى أعتبر نفسى محظوظا فقد لحقت بالكاد الباب المفتوح على عوالم المعرفة والثقافة الرفيعة قبل لحظات قليلة من إغلاقه بالضبة والمفتاح، واليوم أواصل رواية تفاصيل الذكريات التى سبحت فيها بعدما غادرنى الشاب النابه الذى التقيته تحت أعمدة مسرح الكوميدى فرانسيز، بينما كان يقرأ مثلى برنامج عروضه، ثم حكى لى تفاصيل واقعة البلطجة الإخوانية المخجلة التى استهدفوا بها ندوة ثقافية باريسية نظمها له معهد العالم العربى بباريس.
وقلت إننى بمناسبة ملاحظتى أن برنامج عروض هذا المسرح الفرنسى العريق تضمن إشارة إلى أن خشبته ستشهد عرضا لمسرحية «إلكترا» للأديب والمسرحى «جان جيردو» فقد قادتنى الذكريات إلى قراءاتى الأولى لمعالجات مختلفة للأسطورة اليونانية الشهيرة التى تحكى مأساة الثلاثى المكون من الملك «أجاممنون» قائد الحملة الظافرة على طروادة، وابنته «إلكترا»، وابنه «أوريست».
لقد كان أول ما وقع فى يدى من هذه الأعمال ترجمة (أظنها مجهولة) لمسرحية «الذباب» للفيلسوف والأديب الفرنسى الأشهر جان بول سارتر، غير أننى تابعت بعد ذلك (ربما فى مطلع سنوات الجامعة) قراءة نصوص أخرى مقتبسة عن الأسطورة عينها، أهمها ثلاثية «الأوريستية» نسبة لأوريست ابن الملك التى أبدعها كاتب اليونان القديمة الأعظم «أسخيلوس» فى ثلاثة أجزاء، كل جزء حمل اسم واحدة من هذه الشخصيات.
لكنى مدين بفهم جوهر هذه الأسطورة العميق، ومن ثم الوعى بالفروق بين معالجاتها المختلفة على يد كتاب ومبدعين كبار، لمقدمة ضافية وافية كتبها الناقد الكبير الراحل درينى خشبة فى مستهل ترجمة نص جان جيردو الذى حمل اسم «إلكترا»، وقد راجع النص (الذى نقله للعربية الدكتور محمد غلاب) أديبنا العظيم يحيى حقى، وكان هذا السفر القيم قد صدر فى ستينات القرن الماضى عن سلسلة «روائع المسرح العالمى»، تلك التى ثقفت وأمتعت جيلا كاملا بإبداعات خالدة منها فى الموضوع نفسه تحفة أبو المسرح الأمريكى المعاصر «يوجين أونيل» التى حملت اسم «الحداد يليق بإلكترا»..
لا مفر هنا، من أن أقطع السياق لأبلغ القراء الأعزاء بأن كل هذه الذخائر القيمة كانت (مع غيرها من الذخائر والسلاسل) من منتجات وزارة الثقافة المصرية وكان السعر المدون على أغلفتها آنذاك يتراوح بين 10 و15 قرش صاغ.. هل يتذكر أحد عملات بهذا الاسم أو القيمة الآن؟!
أظن أن «الحداد» و«الحزن» على هذا الماضى القريب يليق بنا حقا، تماما كما يليق بالآنسة «إلكترا» التى عاشت أغلب سنوات عمرها تتجرع مع شعب مدينة «آرجوس» مرارة حزن مضاعف ومأساة متعددة الأبعاد، إذ بينما الشعب يكابد قسوة حياة الذل والقهر تحت حكم الطاغية «إيجست» الذى جلس على سدة الحكم بعد مقتل الملك الأب «أجاممنون»، فهى تطوى ضلوعها على سر رهيب، لأنها الوحيدة التى تعرف أن أباها الملك راح ضحية مؤامرة دنيئة نسجتها أمها «كليمنسترا» ونفذتها بيد عشيقها «إيجست» نفسه، بيد أن شقيقها الغائب «أوريست» يعود ذات يوم لينتقم لنفسه ولأخته ولشعب المدينة، ليس فقط من الطاغية قاتل والده ولكن أيضا من الخيانة مجسدة فى أمه.
صباح الخير..